بورتريه

الذكرى الثالثة لوفاة ايدير.. المغني الذي راقص بأنامله أوتار الجيتار  الستة

الذكرى الثالثة لوفاة ايدير.. المغني الذي راقص بأنامله أوتار الجيتار  الستة

رحل في وقت كان الناس فيه تحت رحمة فيروس مستجد شَلَّ حركة البشرية، وفي وقت غابت فيه المهرجانات وأُفْرِغَتْ مدارس الموسيقى وأصيب فيه الفن الرابع بما هو أشبه ب”سكتة القرن”. سافر فجأة إلى وطن النائمين طويلا، بعد أن لم تقدر أصابعه مجددا على عزف لحن الحياة، فعزفَ لحن الموت.

عادة ما يُلقب ب “ايدير”، ارتضاه له الجمهور لقبا واسم شهرة لسنوات، بل لعقود طوال. عقود حضر فيها “ايدير” وغاب “حميد شريت”، اسمه الأصلي الذي سمي به منذ أن رمشت عيناه للوهلة الأولى. كان يملأ الدنيا بفنه الراقي والهادف، لكنه عندما أراد الرحيل، رحل في صمت وغفلة من الجميع، ولسان حاله يقول: غنوا للسلام والهوية واملؤوا مساحة الفرح!

ايدير وطيلة مساره كان رمزا للموسيقى الأمازيغية الملتزمة، “سفيرا” لها بمختف الدول التي داعبت فيها أصابعه الأوتار الستة. دافع عنها وعن رسالتها السامية، جعلها فوق رأسه، واعتز بها، وجعلته هي كذلك فوق كتفيها. أما اليوم، فرحلة الموت التي سافر فيها ايدير تُكمل سنتها الثالثة، ويبقى معها جِيتارُهُ منتظرا عودة “ايدير الفنان” أو “حميد الإنسان”.

من “آيت لحسين” إلى العالمية 

الأمر في البداية بدا عاديا، طفل صغير يرى النور بقرية “أيت لحسين” التي تتربع أعلى جبال “جرجرة” بالجزائر، سنة 1949. لَكْنَتُهُ محلية أمازيغية كما الحال كله بالنسبة لسكان منطقة “القبايل” بالجزائر، وأبوه من السكان البسطاء الذين وجدوا في الرعي مهنة ومصدرا للقوت اليومي. نشأ “حميد شريت” وكبر كأقرانه المحليين في بيئة قروية تطبعُها الأمازيغية هوية وثقافة، فكانت مِحْبَرَةَ “ايدير الفنان” التي استعان بمدادها.

اكتشف ايدير موهبته في الغناء خلال فترة تعليمه الابتدائي، تعلم الجيتار وخبر ما بين أوتاره، غير أن الرؤية لم تتضح له وقتها، ليواصل دراسته حتى مراحل متقدمة، درس خلالها الجيولوجيا كتخصص أراد أن يكمل فيه مساره المهني، لكن الأقدار أبَتْ إلا أن يتعرف الناس على ايدير أو “حميد الفنان” وعلى موهبته الغنائية من بوابة إحدى المحطات الإذاعية، بداية السبعينيات، وذلك بعد أن عوض المغنية نوارة التي تخلفت عن الحضور وقتها، وكان ذلك أشبه بفرصة العمر لإيدير.

أغنية “أفافا إينوفا” التي تصور حوارا بين فتاة ووالدها والتي كان يؤديها إيدير بعفوية، كانت بمثابة المنظار الذي رأى من خلاله العالم، وكذا النافذة التي أطل منها على محبي وعشاق الفن الرابع. هذه الأغنية” ظلت ولاتزال تتردد على شفاه سكان المعمور، وحتى من لا يفهم منهم الأمازيغية. وتحولت معها إلى معزوفة عالمية ترجمت إلى عشرات اللغات، بعد أن أطلقها إيدير رسميا ضمن ألبومه الأول بباريس في سنة 1976.

الفنان المهاجر

حكم الزمان والقدر على إيدير بأن يترك بلاده أواخر السبعينيات وهو في ريعان شبابه، توجه إلى فرنسا وبها استقر، ومنها سيَبْرُزْ أكثر إلى العالم عبر ألبومات جديدة أبان من خلالها عن رسالته الفنية وعن الجوهر السمح للأغنية الأمازيغية. كما أسمع العالم موسيقاه وكلماته، وعزف بأنامله ألحانا لا تزال اليوم حاضرة في سجلات الروائع والخالدات، على الرغم من أن صاحبها رحل، تاركا إياها هبة لمحبيه وللمشترك الإنساني أجمع.

لم يستسغ ايدير الأوضاع السياسية والثقافية التي كانت سائدة بالجزائر زمن الثمانينات والتسعينات وحتى في الألفية الجديدة، مع تراجع في الحقوق والحريات ووقوف السلطات سدا منيعا أمام مجهودات إحياء الهوية الأمازيغية للبلاد. ورغم أنها بلاده، هجرها إلى غاية 2018، بعد أن صارت الأمازيغية لغة رسمية مع دستور 2016، إذ وُجهتْ له دعوة لإحياء حفلين كبيرين في “القاعة البيضاوية”، ولم يكن من المنكرين، فاستجاب لها، بعد قرابة الأربعة عقود من الاستقرار خارج البلاد.

قصته مع مغادرة الديار والهجرة إلى الخارج، لم يتركها ايدير لنفسه فقط، بل عكسها فنيا في أغانيه. أغنية فرنسا الألوان أو “La France des couleurs” التي غناها سنة 2007، كانت مثالا لذلك، إذ تزامنت مع الانتخابات الفرنسية آنذاك التي طغى عليها نقاش الهجرة والهوية، في الوقت الذي تنامت فيه موجة الكراهية ضد كل من أتى للاستقرار ببلاد الأنوار.

“خلود معنوي”

واصل ايدير حياته ومسيرته الفنية، قاطنا بفرنسا، ومرتحلا بين بلدان المعمور. يشارك في التظاهرات الفنية والحفلات التي يقيمها الأمازيغ ببلاد المهجر، بأوروبا وأمريكا، ساعيا بذلك إلى التعريف بالموسيقى الأمازيغية على نطاق واسع. وعلى هذا المنوال ظل ايدير واقفا وصامدا لسنوات، أطلق فيها العنان لكلماته، وكان فيها جيتاره أكثر ما يرافقه. حرص على إنتاج لحن الحياة بمراقصة الأوتار الموازية كلما بدا له أن بؤرة اليقين تقلصت، وتقلصت معها مساحة الأمل.

ظل ايدير خلال مسيرته المهنية فنان المبادئ وموسيقي الهوية، وكذا عراب السلام والتعايش، حيث عارض من خلال أعماله الفنية الاضطهاد والاستبداد، ودافع عن الحريات والعدالة الثقافية، ورفض منطق الإقصاء والسلطوية. جاعلا من نفسه منبرا للحرية وللتشبث بالهوية الأمازيغية، التي لم تنسيه فيها لا فرنسا ولا شهرته العالمية.

وفي الوقت الذي كان فيه الناس يخشون من الموت بفيروس كورونا، كان فيه جسد “حميد الإنسان” يخوض آخر الأشواط ضد مرض عضال ألم به لمدة. وبحلول الثاني من مايو من سنة 2020، سيستسلم ايدير للقدر الذي سيغيبه عن جمهوره وعن العالم أجمع، مستقلا بذلك “قطار اللاعودة”، وتاركا ورائه إرثا فنيا يتذكره به الناس، مادام في الحياة متسع لموسيقى ملتزمة، ولقصائد مميزة كان يُمْتِعُ بها ايدير حتى من هم تحت التراب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News