رأي

حرقة السؤال في دوامة حيرة الثقافة

عبد السلام فزازي

صيحة ثكلى في زمن التطبيع..صيحة صـــامت..

للمرة الألف بتنا نبحث عبر الخريطة العربية البلهاء عن فضاء يواري سوءتنا في زمن اختلت فيه الموازين واستبيحت الشرعية الدولية ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف. هكذا دخل الزناة بيوت بني كنعان ولا نخوة تذكرنا بالتاريخ الذي ولى وراح. أبعد الآن لا زال المهرولون إلى لعبة التطبيع لم يستحيوا من قامتهم النخرة؟ ألا يحق لهم الآن أن يهودوا علانية عروبتهم الذابلة؟

سحقا لنفوس دنيئة لا زالت تطل علينا عبر كتاباتهم المغشوشة حتى النخاع وقد ربحت نفسها وخسرت العالم. ها هي ذي الشيشان بعد لبنان والبوسنة تموت واقفة فلتشربوا معشر العرب البحار. ها هو بلد الشيح والعرعار والأرز والصفصاف يقول لكم: إليكم عنا يا من بعتم عروبتكم بثمن بخس زهيد، واستبحتم طهارة ملة إبراهيم، وصفاء أخلاق خير البرية.. إنكم حقا حثالة زمن رديء فزنروا حقدكم كيف تشاءون ما دام للخريطة العربية البلهاء أبطال أشاوس لا زالوا يؤمنون أن للعدل ربا يحميه. ولا زال في القلب المكلوم متسع لعشق تاريخ نراه يعض على النواجد أسفا، ويبكي مجدا أضاعه نخاس عروبة عارية مثل الحقيقة في بلادكم..

حرقـــة المتـــاه..

سنمتطي معشر المقهورين مسحة الضباب ونقاتل الصمت في بوابة العذاب.. هذه النياشين تبحث في وجداننا عن معنى للسراب.. عبثا سنتفرس نيزكا يخترق الضلوع ويطارد لعنة نسيت لعنتها. فيا أيها النسيان فض بكارة التيه ولملم سوءة الأحبة الموتى خارج أسطورة الغراب.. نسي الطين ساعة أنه طين-فمن يشتري المتاه في زمن الدوار؟ من يرتل بعد الآن أبجدية الخراب؟ من ينكر أن البسمة استحالت إلى سحاب؟ حيارى أنتم جيل الضياع. تبحثون عن وطن الميعاد ولا وطن يا أحباب.. ترسمون شكل البحر على الشفاه ولا بحر يحتويه اليراع.. هكذا قالت قارئة الفنجان واحتمى القمر المنهزم خلف الكثبان.. هكذا عسعس الليل البهيم وعانق عشاق بلادي مواويل الناي العليل..

سنبحث عنك -أيها المتاه العربي، يا قاتلنا- في الجفون الناعسة.. سنخترق فيك نوايا الصبايا وما اقترف الفؤاد.. أنت نشيد الغرباء وربيع الفقراء.. سنرسم الخطى على بقايا الرماد. وسنحكي عن قصة طائر الفينيق، ونحتج لسليمان عن منطق الطي. وسنقد من دبر قمصان العذارى في بلاد العروبة. سنضرب الأزلام ونعقر ناقة الله. سخطا أيها المتاه العربي.. تقتل الفتى وتدخل جثته اعتمارا. سنموت نحن المتيمين العرب حين نموت، ونحمل تعبنا على جفوننا، وقدرنا على تراتيل جنوننا. زمن العرب بوابة مشرعة على الفراغ.. وصمت العرب رمانة مكورة على الإسفلت الحزين. رصاصة طائشة رباه في زمن المتاه!

حرقة السؤال.. مجرد استفهامات..

أحقا في هذا العالم المسكون بآلات الدمار لا يسع المثقف إلا أن ينثر كنانته من جعبة تآكلت مثلما تآكلت عصا موسى؟ هي ذي هشاشة الوقت تفضحها سيرة خريطة عربية بلهاء تحسن السر ولا تعشق الكر.. أيكون الوقت معشر المثقفين كاذب أفاك ليعلن فيكم تفاهة كتب التاريخ الخجولة حتى من نفسها؟ لعنتكم اخوتي المثقفين بيضاء بياض وقتكم الحالم. ولسنا ندري بأي ذنب تعاقبون والحقيقة أنكم لم ترتكبوه..!أيحق لكم بعد الآن أن تعلنوا لعنة ًنزار قبانيً حينما تساءل مستنكرا خيفة وتوجسا عن وفاة العرب؛ووارى-وفي قلبه شيء من حتى-جثتهم إلى مثواها الأخير مخافة أن تنهشها الغربان ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف..؟ أكذب من قال ًالجحيم هم الآخرون ،ًوفيكم من نمق سراديب الجحيم ودوزن إيقاعاتها في فضاءات القيل والقال وما يقولون؟..وكأننا بلغة المثقف لم تعد تحتمله في هذه الأزمنة الجائرة وغدت سياسته لقيطة،تبحث فيه عن هوية مشاعة تتبناها سلالة هابيل وقابيل حين التفت المدية بالمدية ،وسيق الكل إلى الخطيئة الأزلية ؛فكان ميلاد المقاومة ًالغرائبيةً..

حيرة ثقافة. حيرة مثقفين..

ما الذي يشد المثقف إلى ثقافة مستنفرة في زمن ضاع فيه الملاح والمجداف؟ زمن الأنين هنا وهناك. زمن العطالة التي أربكت بنيات اسر لفتها غشاوة أمل قد تأتي ولا تأتي.. ترى في مثل هذه الحالة الجديدة والغريبة على وجود الإنسان المثقف ووضعه، ألا يصبح من الأصح كما يقول محمد الخطيب أن يغير نمط تفكيره وأجوبته؟ أليس من الأصح أن نقول كمثقفين أن التاريخ والمستقبل صارا إمكانية مزدوجة، فيها طريق التقدم وفيها إمكانية الفناء، وأن نكافح بالتالي عبر طريق التقدم؟ هكذا يصبح المثقف وبشكل جلي يغوص عميقا في مأزق شامل يحتاج إلى مراجعة ونقد وتعويض. إن المأزق الراهن الذي يعيشه المثقف لا يختلف عن المأزق السياسي. وان كان المثقف يطرح سؤال الأزمة بإلحاح وتصميم وغضب. بل ربما يدفعه الغضب أحيانا إلى آفاق السواد والإحباط والمتاهات المفتوحة. أي زمان هذا الذي يعيشه المثقف والمتلقي معا. غرابة تعانق غرابة، ورداءة تحمل في طياتها رداءة. الرداءة في أي مكان. في الشارع في الحياة العامة والخاصة بل حتى في علاقة الناس بعضهم البعض. فما الذي جعل الرداءة تنتشر في هذا الجسم العربي العليل؟ هل هو المناخ الذي ساعد المثقف على ذلك؟ أم انه فقدان التقاليد الفعالة للعلاج وصد الأبواب في وجه كل محاولة لحقن هذا الجسم بالمصل المضاد لها؟ تلك علة غدت تزحف وبسرعة الضوء نحو العقول والقلوب بصورة مرعبة..

أجل، من لا يكبر فيه وسواس الثقافة ليس بمثقف أو بمشروع مثقف ولو احتفظ بغموض النوايا حتى آخرها. شئنا أم أبينا الثقافة هي الوحيدة والقادرة على تأليف ذاكرتنا على شكل قصائد مثقوبة.. تغازل قاموسا زئبقيا متجددا كل لحظة وحين. أسئلة تتناسل من واقع الحال المأساوي الذي أصبحنا نعيشه ولا من إجابة واحدة والمثقفون في آخر المطاف هم الضحايا بامتياز، يرفضون، يصرخون، يحتجون، ينشطون، يموتون على نحو بطيء ولا من يكترث.. الأشياء تتحرك في الثقافة الآنية كما تتحرك في الواقع فوضى. ثقافة دخانية تمارس غموض الاحتيال على المكان والمبدعون يشاركون المحاربين بالرقص حول الجثة وعليها. لعلكم معشر المثقفين لا تختلفون ولن تختلفوا على أن حقيقتنا الثقافية يجب أن تعيش صحوة عقلية فريدة من نوعها نحيا بها حياة العصر. دون أن نفقد مقومات أو ثوب شخصيتنا العربية التي تخلع علينا الهوية على أن نتجاوز الموقف السلبي الذي يقتصر على الأخذ، أو عبور جسور المستقبل والرؤوس ملتفته إلى الماضي إلى الموقف الفعال الملم بالمتغيرات الحضارية التي يشارك بالإضافة الجديدة والإبداع الجديد.

باختصار، إذا أردتم معشر المثقفين أن تحظوا باحترام الآخرين الذين نبالغ في احترامهم، عليكم أن تحترموا ثقافتكم التي هي جزء من ذواتكم. من كينونتكم. أن تمارسوا طقوسكم الثقافية في محراب المستقبل مستصحبين لخبايا ماضيكم دونما حاجة للتقديس الأعمى. عليكم أن تولوا الاعتبار لأنفسكم-وأنتم أحق بذلك-قبل أن تفتخروا بالآخرين. ولسنا ندري لماذا الشعور بالدونية التي غدت فردا في العشيرة العربية؟ ثقافتنا جديرة بإثبات الذات. ومثقفونا جديرون بهذه الهالة التي أصبحنا نمطر بها الغرب. جديرون بالوصول إلى العالمية شرط التفرد بخصوصيتنا الدقيقة المتفردة والمعبرة عن تجمع أصيل ومثقف يعترف له الجميع بالهوية والمواطنة في هذه المجتمعات العربية الغريبة.

تعليقات الزوار ( 6 )

  1. متعة القراءة حين يكتب هذا العبقري، وحين يكتب منتقدا ومبدعة ومترجمة ومقارنة.. تبارك الله احسن الخالقين

  2. ترى يا أستاذي الفاضل، إذا سألناك عن أمازيغيتك، فهل سيكون للعروبة مقام في هذا المقال. لاحظ أنك تنصحنا بالاهتمام بثقافتن؟ا

  3. وأخبر بالمناسبة أن ما ينشره الدكتور عبد السلام فزازي ننشره فيما بيننا للإفادة أولا ثم للاطلاع على كل جديد يخص باحثا موسوعي، ونشكر بالمناسبة هذا المنبر الذي يعد مع استقطاب مثل هذا الباحث من المنابر التي سيكون لها الشأن الكبير

  4. قبل أن تتم قراءة المقال ونحن في قاعة الأساتذة إلينا ألا أن نرفع لك القبعة ونتخيلك كما العادة لا تحاسب أحدا عدا هاتفك و الكومبيوتر وانت تحضر بكل تأكيد لمولود جديد ..ما ساعدنا بك ونتمنى أن تزور رابطة الكاتبات المغربية متى كنت غير مشغول والله هذا ما رددناه مرارا في ثانوياتنا

  5. لصديقك القول أيها الباحث المفكر والمبدع أنني حين استقبل اليوم الجديد أتصفح هذا المنبر لأجد كتاباتك تعانق العالم في القها وجماليتها وبعدها الانساني، وهذا يكفيني في زمن التفاهة كما يقولون..دمت لنا

  6. بدأنا نتمتع استاذنا بلغتك التي لن تراوح أبدا مسامعنا، فأنت وحدك من يمتع باللغة شفوية وكتابة وبديهة، تتقنها كما تتقن باقي اللغات، وكم كنا نتمنى أن نصل يوما إلى نصف مستواك لكن من درسوكم ليسوا على الإطلاق يشبهون من دروسنا.. اعتقد أن هذا المنبر ستعطي نكهة جديدة فهنيئا لكم معا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News