مجتمع

فصل جديد من العلاقات..هل تسْتبدل الرباط شراكة باريس ببرلين؟

فصل جديد من العلاقات..هل تسْتبدل الرباط شراكة باريس ببرلين؟

عادَت العلاقات المغربية الألمانية إلى الواجهة من جديد، في أعقاب زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى المغرب توج باتفاق بين البلدين على استئناف التعاون في مختلف المجالات، وذلك بعد توتر دبلوماسي دام شهورًا بسبب ملف الصحراء المغربية. وتحدث كلا الطرفين عن “فصل جديد” في العلاقات الألمانية المغربية، “مبنية على الوضوح والثقة والتعاون من أجل المصالح المشتركة وفق آليات جديدة”.

ولا يخلو توقيت الفصل الجديد من التقارب بين برين والرباط من دلالات تأتي في سياق مجموعة من المتغيرات، سواء على الصعيد الداخلي، في ظل حكومة جديدة في أعقاب رحيل أنغيلا ميركل بعد 16 عاماً قضتها في قيادة الدبلوماسية الألمانية، أو الصعيد الخارجي نظراً للتحولات التي يشهدها العالم على مستويات عدة، وما ترتب عنها من تغيير في ملامح وخيارات السياسة الخارجية لعدد من الدول.

وتزامناً مع التقارب الألماني المغربي، طرحت أسئلة عددة حول مستقبل العلاقات المغربية الألمانية على ضوء البيان المشترك الموقع بين الجانبين مؤخرا بالرباط، والذي جاء في ظل استمرار توتر علاقات المملكة مع حليفها الاستراتيجي فرنسا، وحول ما إذا كان من الممكن أن تستبدل الرباط حليفها التقليدي (فرنسا) بألمانيا خاصة في عدد من المجالات الاقتصادية وعلى راسها الطاقات المتجددة والتعاون العسكري والأمني.

تنافس اقتصادي

سعيد الصديقي، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، يرى بأنه لا يمكن النظر إلى  تحسن العلاقات المغربية -الألمانية، على أنه سيكون على حساب علاقات المغرب مع دول أخرى وخاصة شركائه التقليديين وعلى رأسهم فرنسا، لأن ألمانيا ليس لها طموح لتعزيز نفوذ  سياسي في المنطقة المغاربية حتى تتناقض مصالحها مع فرنسا.

وأوضح الصديقي في حديثه لـ”مدار21″، أنه على المستوى الاقتصادي كان هناك دائما نوع من التنافس بين البلدين لكن لم يرق إلى مستوى الصراع على مناطق الاستثمار أو التصدير، مضيفا “لذلك فإن هذه العلاقات لا يمكن النظر إليها بأنها “لعبة صفرية”، بمعنى أن ما تكسبه ألمانيا ستخسره بالضرورة فرنسا”.

المحلل السياسي والخبير في العلاقات الدولية أحمد نور الدين، أوضح أن  العلاقات الاقتصادية مع فرنسا، “هي جزء من العلاقات المتنوعة والعميقة والمتشابكة بين البلدين في كل المجالات دون استثناء، وتمتد من الثقافي إلى السياسي ومن العسكري والأمني إلى التكنولوجي والمالي، ومن الاقتصادي إلى الإنساني”.

واتفق المغرب وألمانيا على العمل من أجل الحفاظ على استقرار واستمرار الشراكة الاستراتيجية بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي، مع تجديد تأكيدهما على مركزية هذه الشراكة التاريخية والمميزة.

وأكد الإعلان المشترك أن الطرفين جددا التزامهما بالمساهمة في تعزيز هذه الشراكة على كافة المستويات، من خلال الاعتماد على كل المكتسبات والمواقف المعبر عنها في الإعلان المشترك بين الاتحاد الاوروبي والمغرب في يونيو 2019، والذي أسس لشراكة أورو-مغربية من أجل ازدهار مشترك.

الأرقام تتحدث

و تحتل ألمانيا الرتبة الثامنة في قائمة أكبر سوق تصدير للمغرب، حيث بلغ إجمالي صادرات المغرب إلى ألمانيا 1.2 مليار دولار في 2021، كما تعد ألمانيا سابع أكبر مَصدر للواردات في المغرب، حيث بلغ إجمالي صادراتها أكثر من 3 مليارات دولار. ويرى مراقبون أن كلا الطرفين يحاولان تدارك الخلل التجاري القائم بينهما والرفع من مستوى التبادل.

وقال نور الدين في حديثه لـ”مدار21″، لو انصتنا إلى الأرقام فستتحدث لوحدها عن هذا التشابك الذي لا مثيل له في علاقات المغرب مع أي دولة أخرى في الاستثمارات المباشرة والصادرات والواردات والجالية والشركات المقيمة والمختلطة، والخبراء والطلبة ومكاتب الاستشارة ومختبرات، الأدوية والفنادق والبورصة والقطارات والأقمار الصناعية، وصناعة السيارات والطائرات، وتكوين الاطر، والبنوك والتأمينات.

المحلل الاقتصادي والباحث في السياسات المالية نوفل الناصري، أكد أنه لا يمكن استيعاب واستشراف مستقبل العلاقات بين ألمانيا والمغرب، من دون وضعها في السياق العام لسياسة المغرب الخارجية مع دول العالم عموما ودول أوروبا خصوصا.

ويستبعد الناصري، أن يقدم  المغرب على خطوة استبدال حليفه التقليدي فرنسا بألمانيا، مرجحا أن تنحو المملكة نحو تنويع حلفائها ووضع مصلحتها ووحدتها الترابية فوق كل الاعتبارات، وشدد على أن “المغرب والمغارب ينتظرون من فرنسا أن تُوضح موقفها صراحة بشأن سيادة المغرب على صحراءه”.

وسجل الناصري في حديثه لـ “مدار21″، أنه منذ تولي الملك محمد السادس الحكم، اعتمد دبلوماسية جديدة تؤطر علاقات المغرب الخارجية، أساسها نسج شراكات استراتيجية جديدة تحكمها المصالح المتبادلة، وفك الارتهان مع الحلفاء التقليديين، وجعل معيار الاعتراف بالصحراء المغربية واحترام الوحدة الترابية هو نظارة المغرب للعالم.

تنويع الشركاء

وأشار سعيد الصديقي، إلى أن المغرب حينما بدأ في استراتيجية تنويع شركائه وإعادة النظر في علاقاته مع شركاء آخرين لا يعني تخليه على شركائه التقلديين وخاصة على المستوى الاقتصادي، مردفا ” لذلك فإنه رغم الأزمة السياسية البارزة بين الرباط وباريس ورغم أن فرنسا قد تخسر بعض المشاريع المهمة في المغرب، فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال تراجع المكانة الاقتصادية لفرنسا في المغرب التي لا تزال تعد شريكا مهما للمملكة ولا زالت هناك مصالح اقتصادية واستراتيجية متبادلة بين الرباط وبارس”.

جدد المغرب وألمانيا تأكيد رغبتهما المشتركة في مزيد من تعميق العلاقات الثنائية القائمة بين البلدين منذ عدة سنوات، من أجل إقامة شراكة قوية وموجهة نحو المستقبل.

وأكد الإعلان المشترك الموقع بين البلدين في نهاية غشت المنصرم، أن هذا الطموح المشترك، نابع من رغبتهما في تعزيز الحوار والعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية وبين الأشخاص والنهوض بالديمقراطية ودولة القانون والحكامة الجيدة وتطوير التجارة والاستثمارات والتعاون في مجال السياسة البيئية وسياسة التنوع البيئي وكذا الحلول الطاقية الخضراء.

وفيما يتعلق بمجالات التعاون، سجل أستاذ العلاقات الدولية أن المغرب أصبح الآن أمامه خيارات متنوعة ويختار الأنسب له فيما يخص الدول التي تقدم أحسن العروض، في كل ما يرتبط بهذه المجالات المختلفة، مشيرا إلى أنه “مثلا إذا كان التعاون في مجال الطاقة البديلة سيكون أفضل مع ألمانيا فإن التعاون العسكري وربما الأمني قد يكون أفضل مع فرنسا”.

وأكد أستاذ القانون الدولي، أنه أمام تنوع العروض والخيارات المطروحة، فلا يمكن للمغرب أن يضع جميع البيض في سلة واحدة ولا يمكنه أن يرهن تعاونه في مجالات مختلفة مع دولة واحدة، وأضاف : “هناك تنويع للشركاء الاقتصاديين والاستراتيجيين وهناك توزيع لهذه الشركات فيما يتعلق بالقطاعات، علما أن جميع الدول تختار الشركاء بناء على أحسن العروض والفوائد التي يمكن أن تجنيها من هذه العلاقات أو تلك”.

خيارات سياسية

وفي هذا السياق، أعلن المغرب وألمانيا إرادتهما في إقامة حوار استراتيجي حول القضايا الثنائية والدولية ذات الاهتمام المشترك، لاسيما التغير المناخي، وتنمية القارة الإفريقية، والسلام والاستقرار الإقليميين، وتعزيز النظام متعدد الأطراف، والديمقراطية، ودولة القانون والحكامة الجيدة، وتدبير الهجرات وعمليات العودة، ومكافحة الإرهاب والتطرف، والنهوض بحقوق الإنسان وكذا إحداث فضاء أورو-متوسطي للمبادلات والازدهار المشترك.

وسجل أحمد نور الدين، أن هذه الشراكة هي نتيجة لظروف تاريخية بدأت مع الحماية وهي أيضا نتيجة لخيارات سياسية للدولة المغربية في كل مستوياتها رغم تغير الحكومات منذ الاستقلال.وأوضح أنه “لكي نتحدث بعقلانية عن استبدال الحليف الفرنسي بأي حليف آخر، كيفما كان هذا الحليف، يجب أولا أن نطرح السؤال لماذا نستبدله؟ ولمصلحة من؟

وشدد الخبير في العلاقات الدولية،  على أنه يجب أن نعلم أن أمرا كهذا يستلزم منا قرارا استراتيجيا مبنيا على دراسة للواقع واستشراف للمستقبل،  وتمليه مصالح استراتيجية ترجح هذا الحليف على ذاك وفقا لشبكة مركبة ومعقدة من المعايير والمؤشرات الدقيقة.

وأضاف، وبعد تخطي كل هذه المراحل، يجب وضع خطط متوسطة وطويلة المدى لفك الارتباط قد تصل في بعض المجالات إلى ثلاثين سنة اذا أردنا الحفاظ على التوازن الاستراتيجي للمغرب وامتصاص الخسائر.

وتابع نور الدين قائلا: “أما ما دون ذلك فهو إما “فقعات إعلامية”، لشغل الرأي العام وإلهائه عن أشياء أخرى أهم بكثير، وإما ردود فعل على حادثة هنا أو هناك، مست نرجسية بعض المسؤولين الذين رفضت طلبات تأشيراتهم أو طلبات أبنائهم.

استبدال الحليف

واسترسل المحلل السياسي ذاته، و”إما أن الذين يطلقون هذه العبارات “استبدال الحليف” لا يقدرون وزن الكلمات ولا يعرفون خطورتها، وهم يقصدون إجراءات بسيطة بمثابة “قرصنة أذن” فقط لفرنسا التي أهانت كبرياءهم في أشياء لا نعلمها قد تكون التاشيرات مجرد جزء من الجبل الجليدي الذي لا نراه ولا نعرفه.

ولتوضيح خطورة بعض القرارات التي تم اتخاذها في السابق وتبين أنها كانت تخدم مصالح شخصية أو مصالح فئة معينة وليس بالضرورة مصلحة الوطن، قدم نور الدين مثالين اثنين الأول في بداية الستينيات حينما سنت الدولة “قوانين المغربة” وتبين فيما بعد أنها كانت تعني بالنسبة للأراضي الفلاحية مثلا استبدال الملاكين الأوربيين ببعض النافذين والأعيان الذين ستوزع عليهم مئات الآلاف من الهكتارات ذات الجودة العالية، بعد ما قيل لنا أنه “إفلاس” لشركتي “سوجيطا” و”سوجيا”..

والمثال الثاني، بحسب نور الدين، ” هي قرارات تعريب التعليم ثم إلغاؤها ثم العودة إليها  دون دراسات ولا استشراف للتداعيات،  ليتحول أبناء الطبقات الوسطى وما دونها إلى “فئران للتجارب”، قبل أن يستفيق المغاربة على الحقيقة المرة وهي أن الذين رفعوا شعارات التعريب يدرسون أبناءهم باللغة الفرنسية منذ مرحلة الروض وما قبل الابتدائي، ومنهم من لا ينطق أبناؤه جملة واحدة بالعربية.

توازنات جيوسياسية

وأشار الناصري وهو عضو سابق بلجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، أنه بعد اعتراف الحكومة الألمانية بخطة المغرب للحكم الذاتي للصحراء المغربية باعتبارها الأساس لإنهاء الصراع المفتعل، تعبدت الطريق لبرلين لعقد شراكة استراتيجية مع الرباط.

وصرح المستشار الألماني الجديد أولاف شولتس،  بأن المغرب حليف رئيسي في إفريقيا، وسبق لوزارة الخارجية الألمانية أن أصدرت بيانا قويا في دجنبر 2021 أشادت فيه بالمغرب باعتباره “حلقة وصل مهمة بين الشمال والجنوب” سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا.

وأوضح المحلل الاقتصادي، أنه بحكم الموقع الاستراتيجي والمؤهلات الهائلة التي يزخر بها المغرب فأهم المجالات التي ستكون محور التعاون هي:  الطاقة المتجددة، صناعة السيارات الكهربائية، والمعدات الطبية ، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التعاون الأمني، الشراكات الإفريقية الثلاثية..

ويرى المحلل الاقتصادي، أن التعاون المستقبلي بين المغرب وألمانيا في ظل المتغيرات والمحددات الحالية، “سيؤثر لا محالة في تفاعلات وتحالفات البيئة الإقليمية وكذلك في الفاعلين الأساسيين فيها، وسيفرض توازنات جيوسياسية جديدة في حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا”.

مصالح متبادلة

وسجل أن ألمانيا هي القوة الأولى في أوروبا ولها مقومات اقتصادية عديدة وتكنولوجيات حديثة رائدة، في المقابل يعتبر المغرب حليفا موثوقا تاريخيا وذي مصداقية إفريقيا، وشريكا سياسيا قويا عالميا، مشيرا إلى وجود علاقات ثابتة مع الدول العربية والإسلامية، و شراكات متقدمة مع الدول الأوربية، فضلا عن تعاون مستدام مع أمريكا وكندا وأمريكا اللاتينية، مصالح متبادلة مع روسيا والصين وتركيا ودول آسيا.

وقال الناصري، إن ألمانيا، تسعى إلى تعزيز علاقاتها التجارية في إفريقيا حيث تمثل مبادلات برلين التجارية مع المنطقة فقط 1  في المائة من مجموعة التجارة الخارجية الألمانية، مبرزا أن الشركات الألمانية، تبحث عن منافذ مباشرة لدول إفريقيا، والمغرب نافذة استراتيجية ذات وزن اقتصادي وتاريخي في هذه الدول ومن المستثمرين الأوائل فيها.

ولفت المحلل الاقتصادي ذاته، إلى أن   دول أوروبية عديدة وعلى رأسها ألمانيا عبرت عن اهتمامها بما يملكه المغرب من بنية تحتية تؤهله لتزويدها بما قد تحتاجه من هيدروجين عبر خطوط الغاز المتصلة بأوروبا أو باستخدام شبكة موانئه لتصديره عن طريق السفن البحرية وغيرها من الوسائل الأخرى، خصوصا بعد تآكل سلاسل الإمداد العالمية.

هذا، وجددت ألمانيا تأكيدها على مكانة المغرب كشريك أساسي للاتحاد الأوروبي وألمانيا بشمال افريقيا والقارة الإفريقية بأكملها، وكصلة وصل بين الشمال والجنوب، معربة عن دعمها لتعزيز الشراكة الاستراتيجية المغرب-الاتحاد الأوروبي.

من جهته، جدد المغرب التأكيد على أهمية الشراكة المميزة والقائمة منذ أمد طويل مع الاتحاد الأوروبي، معتبرا ألمانيا شريكا أوروبيا أساسيا.

وسيرتكز الحوار الاستراتيجي بين الرباط وبرلين، على القيم المشتركة والاحترام المتبادل بهدف وضع مبادئ وأسس العلاقات بين المغرب وألمانيا، وتحديد القواعد التي سيتم تطوير هذه العلاقات على أساسها والحفاظ على المصالح الأولوية للطرفين، كما سيشكل قاعدة للمضي قدما في إطار العلاقات الثنائية وسيعزز الانسجام بين مختلف مجالات التعاون الثنائي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News