ثقافة

أفاية: سبيلا كوّن”مناضلين فلسفيين” في مواجهة إحباطات السياسة

أفاية: سبيلا كوّن”مناضلين فلسفيين” في مواجهة إحباطات السياسة

بوفاة محمد سبيلا فَقَدَ المغرب أحد المثقفين البارزين والأساتذة الكبار الذين تركوا وسيتركون أكثر من أثر على مسارات الفكر في البلاد؛ كما فَقدت، شخصيا، أحد الرجال الذين ساهموا في تغيير مجرى اتجاهي الجامعي والفكري. فكيف بالوسع استحضار ملامح شخصية سبيلا المتنوعة؟

وهل من الممكن، في سياق لحظة الإحساس بالفقدان، استدعاء قاموس بارد لعرض صورة مثقف مغربي جاهد، بإصرار، من أجل انتزاع بعض الاعتراف بجدارة المثقف في بلد ليس لهذا المفهوم العصري فيه أكثر من ستة عقود؟ وكيف يمكن استذكار أدوار هذا الفاعل التربوي الذي آمن بحمل «رسالة»، وبمسؤوليات حددها له الزمن السياسي الوطني الذي كان يبشر بعالم مغاير يسوده العدل والحرية والعقل والجمال؟.

بوفاة محمد سبيلا فَقَدَ المغرب أحد المثقفين البارزين والأساتذة الكبار الذين تركوا وسيتركون أكثر من أثر على مسارات الفكر في البلاد؛ كما فَقدت، شخصيا، أحد الرجال الذين ساهموا في تغيير مجرى اتجاهي الجامعي والفكري. فكيف بالوسع استحضار ملامح شخصية سبيلا المتنوعة؟

وهل من الممكن، في سياق لحظة الإحساس بالفقدان، استدعاء قاموس بارد لعرض صورة مثقف مغربي جاهد، بإصرار، من أجل انتزاع بعض الاعتراف بجدارة المثقف في بلد ليس لهذا المفهوم العصري فيه أكثر من ستة عقود؟ وكيف يمكن استذكار أدوار هذا الفاعل التربوي الذي آمن بحمل «رسالة»، وبمسؤوليات حددها له الزمن السياسي الوطني الذي كان يبشر بعالم مغاير يسوده العدل والحرية والعقل والجمال؟.

إزاء لحظات الفُقدان أعترف بأنني غالبا، إن لم أكن دائما، ما أتجنب لحظات الكتابة عن موت شخص عزيز؛ ليس تهربًا من عملية استذكار خصال وفضائل وعطاءات الإنسان الذي افتقدته، وإنما لأن عجزًا ما ينتابني وأنا أبحث عن الكلمات المناسبة لتسمية هذه الفضائل، إذ يفيض منسوب الانفعال على مقاييس التعقل، حتى وإن استنهضتُ كل مقومات التيقظ والانتباه.

كثيرة هي أفضال محمد سبيلا على الفكر المغربي المعاصر وعلى الدرس الفلسفي في بلادنا، ولا مجال لاستعراض بعضها في هذا المقام المشروط بوَقْع الفقدان؛ لقد سعى في كل كتاباته وتدخلاته إلى فهم إشكاليات زمن العالم، والحث على استنبات قيمه في الثقافة، والسياسة، والتعليم.

وفي المجال العام؛ لقد كان قارئا محترفا، وكاتبا أصيلا، ومفكرا وسائطيا استثنائيًا، ونصوصه شاهدة على هذا القول؛ فهي تكثف جموحه الدائم إلى الفكر الجديد والمُجدِّد، ينحت قاموسه بأسلوب مميز في الرشاقة، ساعيا إلى إدماج منسوب كبير من الوضوح في الأفكار في التداول الفكري المغربي.

ولأن محمد سبيلا عانى من إحباطات السياسة، ودبر صدماتها وتناقضاتها بكثير من العناد، فإنه استثمر جل قواه في مجال البحث والتدريس والترجمة، وحوَّل هذا المعترك إلى مَشْتل كوَّن فيه «مناضلين فلسفيين»، بحيث لا أظن أن أستاذا للفلسفة في المغرب وصل إلى الرقم القياسي في الإشراف والتأطير والتوجيه الذي بلغه الأستاذ سبيلا؛ إذ لن تعدم أي جهة من جهات المغرب وجود بذور هذا المشتل الخاص الذي قدم له كل ما يملك من رعاية واحتضان ومواكبة؛ وهو قام بذلك باقتدار كبير يجمع فيه ما بين واجبات الأستاذ والحس العالي للصداقة، بحيث إن أغلب من أشرف عليهم أصبحوا أصدقاء أوفياء له.

ومن واجبي الإقرار بأن هذا الرجل كان له الفضل الكبير في عودتي إلى متابعة دراستي الجامعية بكلية الآداب بالرباط؛ ذلك أنني سنة 1982 كنت مازلت أتهجى عملية البحث والكتابة والنقد؛ وفي سياق تراجيدي، أو على الأقل هذا ما شعرت به وعشته في تلك السنة بسبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وما عاناه اللبنانيون والفلسطينيون من حصار ودمار جراء آلة الحرب الهمجية الصهيونية، نشرت مقالا مطولا في المجلة البيروتية «دراسات عربية»، أناقش فيه موضوعات عدة، وكتبت في هامش من هوامشه ما يفيد نقدًا لأساتذة الفلسفة في شعبة الرباط؛ لاسيما أنني، مع أصدقاء لا ينقصهم التكوين والكفاءة، وجدت حائطا معرقلا منعني من الحصول على شهادة الدروس المعمقة مرتين، عِلما أن الأستاذ الجابري كان يمنحني، في كل مرة، نقطة موجبة للنجاح. اختلط الإحباط، حينها، بالرغبة في تأكيد الذات، بالمناخ المأساوي، وقررت الابتعاد، تماما، عن كلية الآداب بالرباط؛ إلى أن التحقت بمجلة «الوحدة» سنة 1985 بصفتي محررا متفرغا في هيئة تحريرها، وهكذا تحولت من طالب مُنع من متابعة دراسته الجامعية لأسباب ليست بيداغوجية البتة إلى مُحرر قد يقبل أو يرفض مقالات أساتذته بالمجلة.

كان معنا في هيئة التحرير المرحومان أحمد المجاطي ومحي الدين صبحي، والأستاذ أحمد اليبوري، وآخرون، إلى أن التحق بنا الأستاذ محمد سبيلا. وفي نهاية أحد اجتماعاتنا استفرد بي محمد سبيلا وسألني، بطريقة لا تخلو من دهاء، هل كنت أنتمي إلى حزب سياسي، أجبته بما يفيد بأنني تعلمت قسطا من السياسة في العمل الجمعوي، وفي تجربة تنظيمية محدودة في أواسط السبعينيات؛ أما ما عدا ذلك فإنني لا أجد في دواخلي ما يكفي من شروط الانضباط للاستجابة لكلمات الأمر التنظيمية؛ ثم انتقل بي مباشرة إلى الحديث عن الدراسة الجامعية وابتعادي عن كلية الرباط. شرحت له الأسباب، وأخبرته بأنني أنوي متابعة دراستي بالسوربون، فضلا عن أنني عبرت له عن بعض الحرج الذي كان ينتابني تجاه بعض الأساتذة الذين كنت قاسيًا معهم في مقالي المشار إليه أعلاه.

منذ هذا الحديث شعرت أن محمد سبيلا جعل من موضوع عودتي إلى متابعة الدراسة بكلية الرباط قضيته الشخصية، وقد نجح في ذلك، ومهد لي كل شروط المصالحة مع هذه الكلية..

اجتزت شهادة الدروس المعمقة، وأشرف على بحث دبلوم الدراسات العليا في موضوع «الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة؛ نموذج هابرماس»؛ وبفضل ذلك التحقت بكلية الآداب ابن امسيك في زمن العميد المُؤسس الصديق حسن الصميلي، إلى أن انتقلت سنة 1995 إلى شعبة الفلسفة بالرباط، أستاذا مُدرسًا وزميلا لأساتذة تعلمت من بعضهم الكثير.

من جهة أخرى فإن محمد سبيلا يمثل نخبة من المجتهدين الذين لم ينساقوا، بسرعة، وراء نزوعات اختراق شعب الفلسفة وتحريفها، قليلا أو كثيرا، عن الانشغالات الكبرى لهذا الحقل الفكري.

ابتعد عن حُمى تاريخ العلوم وفلسفتها على الرغم من أهمية الدرس الإبستيمولوجي في نشأة وتطور المفاهيم؛ وتبرم، نسبيا، من الانخراط الجماعي في الدراسات التراثية، مع إدراكه العميق لرهاناتها الإيديولوجية والسياسية في الصراع الفكري؛ فهو أصر، دوما، على تقديم مساهمات نظرية في الفلسفة والعلوم الإنسانية بهدف تقعيد النظر المغربي والعربي إلى الذات والمجتمع والسياسة والعالم، وضخِّه بما هو مناسب من انفتاحات فكرية ونظرية للكشف عن أعطاب هذا النظر وتفهم آليات اشتغاله المعلنة واللاواعية؛ ومن أجل ذلك عمل بتفان لا محدود على تعريب الأسس الفلسفية للحداثة لمحاربة الفهم الاختزالي لمقوماتها، وقدم تشريحا لتناقضاتها في سياقنا المغربي، ومساءلة لثنائياتها المتأرجحة بين الاستلاب والتحرر، الوحدانية والتعدد.

هكذا لم يكن محمد سبيلا شخصا عاديًا أو مجرد كاتب ومثقف عصري يبشر بالعقل والحرية والتنوير، أو كان يمثل أحد الخصوم الطبيعيين لكل أشكال الأصولية التي تشوش على التفكير، والإبداع، وعشق الحياة؛ وإنما كان أستاذا كبيرا وصديقا يستحق الكثير من التقدير والعرفان والاعتبار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News