ثقافة

إيطاليا رمزا لأوروبا اللاتينية في رحلة ابن بطوطة

إيطاليا رمزا لأوروبا اللاتينية في رحلة ابن بطوطة

بخلاف القسطنطينية العظمى التي أبدى ابن بطوطة (1304-1377م) رغبة شديدة في زيارتها، حين سنحت له الفرصة للقيام بذلك ،لم يحدث  للرحالة المغربي أن أبدى في أي ظرف من الظروف رغبة في زيارة أي أرض مسيحية لاتينية.والحال أن الأرض اللاتينية ذاتها لم تكن  لترحبباستقبال ابن بطوطة بصفته مسلما،ففي القرن الرابع عشر “لم يكن لرجل مسلم أن ينصح بأن يهيم في البلاد المسيحية كمغامرة خاصة بحتة”.

وقد شاء القدر أن يتعرف ابن بطوطة وهو حي يرزق، ولو بشكل سريع خاطف،على جزء من أوروبا  اللاتينية -التي ستستقبل بترحاب كبير ثمرة رحلاته بعد قرون من وفاته- ممثلا بميناء في جزيرة سردينيا بإيطاليا متزعمة حركة النهضة الأوروبية آنذاك. فخلال عودة ابن بطوطة الأولى إلى المغرب بعد غياب دام خمسا وعشرين سنة، غادر تونس في سفينة قشتالية متجهة إلى تنيس في الساحل الجزائري، فكان أن عبرت السفينة طريقا طويلا يمر عبر كالياري في أقصى جنوب جزيرة سردينيا ،مثلما اتفق دارسو الرحلة على ذلك:

ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين فوصلنا إلى جزيرة سردانية، من جزائر الروم. (4، ص.190).

تجدر الإشارةهاهنا إلى أن جزيرة سردينيا كانت حينها تابعة لمملكة أراغون-كطالونيا، بوصفها قوة عسكرية مسيطرة زمن رحلة ابن بطوطة “على مجال واسع من غرب البحر المتوسط بما في ذلك جزر البليار وصقلية”، مما يضيء سيطرة أرباب السفن الإسبان فضلا عن الجمهوريات البحرية الإيطالية على التجارة في الطرق البحرية آنذاك، ويفسر في الوقت ذاته العواقب الوخيمة الناتجة عن انتهاء مدة اتفاقية السلام والتعاون التي وقعها السلطان أبو الحسن المريني سنة 1337مع بعض قادة أوروبا الجنوبية، بمن فيهم حكام سردينيا، وقد قدمت رحلة ابن بطّوطة نموذجا عن هذه العواقب بحديثها عن استيلاء “العدو الرومي” على مركب تونسي كان قد وصل الرحالة على متنه إلى جربة.

بتوقف السفينة القشتالية في ميناء كالياري، إذا، سنحت الفرصة لابن بطّوطةمن دون سابق استعداد بأن تلامس قدماه الأرض اللاتينية المسيحية لأول مرة في حياته.و بالرغم من أن وصفه لهذا الميناء وإحدى حصونه وصف مقتضب جدا يتطابق مع سرعة الزيارة، إلا أنه يتفق في المجمل “مع الوصف الوارد في المرشد البحري الذي ألفه ريتزو”،وهو علاوة على ذلك يترجم بوضوح إعجاب الرحالة المسلم بالميناء وهندسته الدالة تعميما على اهتمام الأوروبيين المسيحيين بالملاحة البحرية التي سيكون لها أكبر الأثر في تقدمهم لا حقا:

“ولها مرسى عجيب، عليه خشب كبار دائرة به، وله مدخل كأنه باب لا يفتح الا بإذن منهم وفيها حصون دخلنا أحدها وبه أسواق كثيرة “.

وهذا يعني أن الزيارة لم تكن بحد ذاتها مثيرة للاشمئزاز، كما ذهب إلى  ذلكروس .إ.دان وهو يعلق علىالحدث  قائلا: “كانت الزيارة سريعة ومثيرة للاشمئزاز”. إن ما أثار الرعب في نفس ابن بطّوطة وكدر صفو الزيارة، هو ما تناهى إليه من إضمار أهل  الجزيرة نية أسره وصحبه من المسلمين:” ونذرت لله تعالى إن خلصنا اللهمنها صوم شهرين متتابعين لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على إتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا ! ، ثم خرجنا عنها …”.

وربما يكون الرعب الذي تملك الرحالة من جراء معرفته بالنوايا، هو الذي ضيع علينا فرصة اهتمامه بوصف ما يتميز به الحصن وأسواقه الكثيرة فضلا عمن صادفهم من الأهالي والأجانب هناك ،تماما كما ضيع علينا احتمال ورود المقارنة بين الأرض اللاتينية والأرض البيزنطية.

في هذا الإطار، نشير إلى أن سرد ابن بطوطة المختزل لزيارته السريعة للميناء الأوروبي ، كفيل بأن يعطينا صورة عميقة عن أحوال العلاقات بين المسلمين والمسيحيين تعميما في القرن الرابع عشر، وبين المسلمين وسكان جزيرة سردينيا  تخصيصا بالنظر إلى تاريخ الجزيرة مع الفاتحين العرب ، ابتداء بأول محاولة فتحفي القرن الثامن الميلادي زمن الوليد بن عبد الملك ،إلى حدود آخر محاولة في القرن الحادي عشر الميلادي على يد المجاهد العامري بحسب المؤرخ ابن الأثير(1160م-1233م).

هذا مع العلم أن بالإمكان تقصي آثار الوجه العنيف المعقد لهذا التاريخ في رحلات الغرب الإسلامي،ونأخذ مثالا عنها رحلة ابن جبير التي تشيد صورة حية عن طبيعة العلاقة بين نصارى جزيرة سردينيا والمسلمين في القرن 12م استنادا ،من جهة، إلى شهادة شاهد عيان هو رفيق سفر الرحالة  الأندلسي على مركب توقف  مدة في مرسى قوسمركة للتزود بالماء والزاد والحطب، واستنادا من جهة أخرى إلى رد فعل ابن جبير ذاته أثناء سرد الحدث: “وهبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم إلى أقرب المواضع المعمورة منا،فأعلمنا أنه رأى جملة من أسرىالمسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق.وكان ذلك عند وصول العدو،دمره الله، بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين، والله يتداركهم برحمته” .

على سبيل الموازنة ،نلاحظ أن وصف ابن بطّوطة لحالة الرعب التي أصابته ،بعد أن تناهى إلى سمعه الخطر الذي يتهدده وصحبه ،وصف يعضد ما جاء في رحلة ابن جبير، في الوقت نفسه الذي ينقلنا فيه إلى عالم القرصنة البحرية الذي كان المسيحيون الأوروبيون يسيطرون عليه قبل تأسيس القرصنة الإسلامية في العهد العثماني. ذلك أن القصد من حديث ابن بطّوطة عن أهل الجزيرة العازمين على اتباعهم ليأسروهم، إنما هو بعض القراصنة المقيمين في الجزيرة الذين أضمروا نية” في ملاحقة [المركب]بعد انطلاقه لأسر الركاب المسلمين، والاحتفاظ بهم طلبا للفدية”.

ويتضح من ذعر ابن بطّوطة وتضرعه إلى الله ونذره الصيام في حال النجاة، أنه كان يعرف حق المعرفة حقيقة الخطر الذي يتهدده بصفته مسلما في أرض لاتينية مسيحية، وإلى هذا الخطر الداهم الذي يعي ابن  طنجة في العهد المريني دوافعه جيدا، يمكن أن نعزو أيضا “نفوره” الظاهر من أوروبا، وهو الذي ذهب أبعد مما خططته له الكرامات الإسلامية.

ترى ما الذي كان سيحدث لو كانت قد أتيحت لابن بطّوطة فرصة السفر إلى كالياري تحت حماية قوة متنفذة-كما كان الشأن في القسطنطينية- فزار الميناء زيارة أطولوهو مطمئن على حياته؟

ارتكازا من ناحية علىخلو نص الرحلة من أي نعت قدحي في حق منطقة كالياري وأهلها، وعلى حرص ابن بطّوطة الشديد من ناحية ثانية على الالتزام بشروط الضيافة وحدودها  بغية تأسيس “علاقة لطف” مع الآخر المسيحي الأورثوذوكسي المتحفظ في أثناء زيارته للقسطنطينية، نميل إلى الاعتقاد أن الرحالة المغربي كان سيسعى وهو يزور أهم معالم الميناء إلى تأسيس “علاقة لطف” أيضا مع الساكنة المسيحية اللاتينية، وفي هذه الحالة كانت روحه الاستكشافيةوملاحظاته الثاقبة ستنتهي به –ولاشك- إلى تشييد الوجه الآخر الخفي لعلاقة أهل الميناء والجزيرة تعميما بالحضارة العربية الإسلامية ،حيث أوضحت بعض الأبحاث الإيطالية مؤخرا أن هذه العلاقة لم تقتصر على الرفض والعنف وإنما تجاوزت ذلك إلى التفاعل الإيجابي. فميناء كالياري – مثله في ذلك مثل مناطق أخرى من جنوب سردينيا–يحمل من خلال شواهد القبور،والعملات النقدية،والأواني الخزفية المنقوشة… إلى آخره،آثارا واضحة عن الإرث  الإسلامي والحضور العربي في الجزيرة، تشهد كلها على وجودعلاقاتطيبة بين مسيحيي الجزيرة والعرب المسلمينتتعدى النشاط التجاري الصرف إلى التبادل الثقافيوالتعايش النسبي، وتخصيصا مع مسلمي الأندلسرمز التفاعل والتمازج الحضاري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News