البوز: الخطاب الملكي رد هادئ على غضب الشارع ودعوة إلى إصلاح متزن

قال أحمد البوز، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس، إن الخطاب الملكي جاء “في لحظة مشحونة بالترقب، انشغل المغاربة خلالها بمضمون ما سيقوله الملك أكثر من أي وقت مضى”، مفيدا أن الخطاب كان بمثابة “رد هادئ على “ضجيج” الخارج، محاولة لاحتواء الغضب لا بالصدام، بل بلغة الإصلاح المتزن والدعوة إلى العمل المشترك”.
واعتبر البوز، في تحليل عننه عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك)، أن الخطاب وجه رسائل متعددة في آن واحد، فهو يحيي البرلمانيين، لكنه “يذكرهم أيضا بأنهم في سنتهم الأخيرة، أي في لحظة الحساب”، مضيفا أن المتأمل في “نبرة الخطاب يدرك أن الرسالة الأعمق تتجاوز حدود البرلمان لتصل إلى المجتمع: الدولة تسمع، لكنها لا تريد أن تتسرع، تدرك أن هناك خللا في العدالة الاجتماعية، لكنها تصر على أن الحل يمر عبر المؤسسات لا عبر الشارع. هنا بالضبط يكمن التوتر الخفي بين منطق الدولة ومنطق الجيل الجديد”.
وأردف أستاذ العلوم السياسية أن “جيل زد خرج ليقول إن الزمن السياسي بطيء، وأن وعود التنمية الكبرى تحولت في أغلبها إلى شعارات معلقة في الهواء. أما الملك، فقد رد بخطاب يدعو إلى “تعبئة الطاقات” و”ثقافة النتائج” و”تغيير العقليات”، وهي عبارات توحي بأن الدولة واعية بضرورة مراجعة طرق العمل، لكنها ما تزال تفضل لغة التوجيه بدل لغة التغيير الجذري”.
واسترسل المتحدث أنه “في الوقت الذي يطالب فيه الشباب بمحاسبة المسؤولين ومراجعة السياسات، يختار الخطاب التركيز على النجاعة الإدارية والفعالية الميدانية، وكأن المشكلة تكمن فقط في الأساليب لا في البنى العميقة للسلطة والاقتصاد”.
وأوضح البوز أن الملك رد على شعار المحتجين “مابغيناش كأس العالم الصحة أولا” بالقول إنه “لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، ما دام الهدف هو تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين، أينما كانوا”، مبرزا أن “هذه العبارة المقتضبة بدت كأنها جواب هادئ على شعار غاضب، لكنها تحمل في عمقها أكثر من مجرد توضيح ظرفي”.
وتابع أن “القراءة المتأنية لهذا المقطع تكشف أنه لا يكتفي بنفي التعارض بين التنمية الرمزية والتنمية الاجتماعية، بل يسعى إلى تصحيح ضمني للرؤية الرسمية التي طالما منحت الأولوية للمشاريع الكبرى باعتبارها عنواناً لهيبة الدولة وفاعليتها الاقتصادية. فهي لا تنكر أهمية هذه المشاريع ولا تقلل من قيمتها الاستراتيجية، لكنها تشترط أن تترجم ثمارها إلى تحسن ملموس في حياة المواطنين، وأن ترافقها سياسات اجتماعية فعالة قادرة على تقليص الفوارق وضمان العدالة المجالية”؟
وأوضح البوز أن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية كانت محور الخطاب، وهي أيضا في قلب الاحتجاج، مبرزا أن “الملك تحدث عنها باعتبارها “توجها استراتيجيا ورهانا مصيريا”، في حين يرى الشباب أنها حق مفقود أكثر منها توجها مستقبليا. فحين يشير الخطاب إلى ضرورة “محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات”، ففي ذلك اعترافا ضمنيا بأن السنوات الماضية شهدت هدرا لهذه الإمكانات، وأن التنمية الموعودة لم تبلغ الجميع. لكن ذلك الاعتراف لا يذهب إلى حد تسمية المسؤولين عن هذا الهدر، ولا يفتح الباب أمام مساءلة حقيقية، وهو ما يجعل الشباب يشعر بأن التشخيص صحيح، لكن العلاج ما يزال ناقصا”.
وأردف البوز “أما حين يتحدث الخطاب عن “استثمار أمثل للتكنولوجيا الرقمية” و”تغيير ملموس في العقليات وطرق العمل”، فإن المفارقة تزداد وضوحا: فجيل زد نفسه هو نتاج هذا العالم الرقمي، يعيش في فضاء مفتوح، يتواصل بحرية، ويراقب كل صغيرة وكبيرة في أداء الدولة، بينما الخطاب يتعامل مع الرقمنة بوصفها أداة لتسريع التنمية، لا كوسيلة لتوسيع المشاركة والمحاسبة. الشباب يريد “رقمنة السياسة”، لا رقمنة الإدارة فقط. يريد أن يرى الدولة شفافة بقدر ما هي قوية”.
في خلفية الخطاب، يؤكد البوز، “يمكن التقاط نغمة قلق مكتوم، فالدولة تدرك أن ثقة المواطنين في مؤسساتها تتآكل، وأن الأحزاب السياسية والبرلمان فقدت جزءا كبيرا من قدرتها على التأطير والتعبئة. وهي، في هذا الوعي، تستحضر خطابات سابقة كانت أكثر جرأة في التشخيص، مثل خطب “أين الثورة؟” و”الطبقة الوسطى” و”المغرب يسير بسرعتين”، لكنها مع ذلك ترفض خيار القطيعة”.
لذلك يكرر الملك، وفق البوز، دعوته إلى “البرلمانيين والأحزاب السياسية من أجل استعادة أدوارهم الأصلية، في محاولة لضخ نفس جديد في الوسائط القديمة بدل تجاوزها أو تعويضها بآليات جديدة”، مضيفا: “إنه خطاب يسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الاستمرارية والتغيير، لكنه يفعل ذلك من موقع الحذر، وكأنه يطمئن الدولة من دون أن يصطدم بالواقع، ويدعو إلى الإصلاح من داخل النظام لا من خارجه”.
واعتبر البوز أن خطاب 10 أكتوبر 2025 “مرآة مزدوجة؛ في وجهها الأول، تعكس وعيا ملكيا متقدما بحجم الأزمة الاجتماعية، وفي وجهها الآخر، تكشف عن حدود الرؤية الرسمية في التعامل مع التحولات الجيلية الجديدة. فهو خطاب يسمع نبض الشارع، لكنه لا يتقمص أسلوبه كما لا يتكلم لغته. يعد بالإصلاح، لكن ضمن قواعد اللعبة نفسها. لذلك خرج كثيرون من الاستماع إليه بشعور متناقض: اطمئنان لأن الدولة ما زالت تعترف بالمشاكل، وقلق لأن طريق الحل ما يزال طويلا، ولأن الجيل الجديد يريد أن يعيش التغيير لا أن يسمعه فقط”.