الحصيلة الاقتصادية للحكومة.. صمود في وجه الأزمات وإخفاقات تغطي مُنجزات لامرئية

تدخل الحكومة المغربية سنة “الحصاد”، الأخيرة في عمرها، على صفيح ساخن؛ فالاحتجاجات الأخيرة التي عرفتها المملكة وزعت الاتهامات هنا وهناك حول أسباب انفجار الغضب الشبابي، ومن الطبيعي ألا تسلم الحكومة في ظروف كهذه، بل أن تنال قسط الأسد من الانتقادات، ما يطلي اللوحة كاملة بالسواد ويجعل من الصعب وضع حصيلة موضوعية لعملها الاقتصادي خلال السنوات الأربع الماضية. حاولت “مدار 21” استقاء آراء اقتصاديَّين بارزين، لرسم معالم ولاية حكومية كان الاقتصاد في طليعة اهتماماتها، بمنجزاته وأخطائه وإخفاقاته.
وجاءت حكومة أخنوش إلى السلطة في سنة 2021 بشعارات كبيرة، بل انتصبت وسيطا بين الأوراش والمشاريع الملكية المهيكلة وبين تنزيلها؛ الحماية الاجتماعية، الرقمنة وإصلاح الإدارة، ميثاق الاستثمار، التمكين الاقتصادي للنساء، المقاولات الصغرى والمتوسطة، الابتكار… كل ذلك بمقاربة “التنمية الاقتصادية” التي ترى أن “الاقتصاد هو القاطرة التي تجر الوضع العام؛ البشري والاجتماعي والثقافي بالبلاد”. مقاربة يرى بعض الخبراء أنها متجاوزة وأثبتت تدني نجاعتها، كون العديد من البلدان جربتها ولم تحصد من نمو اقتصاداتها سوى القليل على المستوى الاجتماعي.
منجزات واضحة بأثر مُبهم
الملاحظة التي لا تخطئها العين هي أن عمل الحكومة جاء في سياق دولي ووطني صعب؛ تضخم عالمي مستورد نحو المغرب، تغيراتٌ مناخية تخنق القطاع الفلاحي ذي الأهمية البالغة في المنظومة الاقتصادية الوطنية، وكل ذلك في ظل تعافٍ اقتصادي لم يكتمل بعد من مخلفات جائحة كورونا على الاقتصاد الوطني وعلى اقتصاديات الشركاء الكبار.
ذلك ما يدفع الخبير الاقتصادي والأستاذ بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، إدريس الفينة، إلى القول بأنه على الرغم مما شهده العالم من تقلبات جيوسياسية، وارتفاع غير مسبوق في كلفة التمويل والطاقة، وقسوة الظروف المناخية على الفلاحة المغربية، فقد خرج الاقتصاد الوطني من سنة 2024 بنتيجة غير متوقعة: معدل نمو بلغ 3,8 في المئة، (4,5 في المئة خلال النصف الأول من 2025) متجاوزًا التوقعات التي وضعتها معظم المؤسسات الدولية.
رئيس “المركز المستقل للدراسات الاستراتيجية”، لفت الانتباه هذه المرة ليس فقط للأرقام في حد ذاتها، بل إلى “تحوّل طبيعة النمو المغربي من نموذج متمركز حول الفلاحة والطلب الداخلي، إلى نموذج تدريجي يرتكز على الصناعة، والبنية التحتية، وتحريك الاستثمار العمومي”.
واعتبر الفينة أن حكومة عزيز أخنوش بدأت منذ متم السنة الماضية تنتقل من مرحلة “الوعود” إلى مرحلة “الأثر الاقتصادي الملموس”؛ “رغم الانتقادات الموجهة لبطء الإصلاحات الاجتماعية وتحديات التعليم والصحة، فإن التحول في هيكلية الاقتصاد، وضبط المالية العمومية، وتحريك مشاريع البنية التحتية تُعد إشارات واضحة على بداية تبلور مشروع اقتصادي جديد”.
ضربة موجعة للفلاحة وصعود قطاعات جديدة
وفي التفاصيل؛ اعتبر الفينة أن القطاع الفلاحي، الذي لطالما كان متقلب الأداء ومحركًا رئيسيًا للناتج الداخلي الخام، سجل تراجعًا بنسبة 4,8 في المئة، بفعل الجفاف وتأخر الإصلاحات الهيكلية، غير أن هذه الضربة الطبيعية لم تمنع الاقتصاد الوطني من الصمود، بل فتحت الباب أمام صعود قطاعات أكثر استدامة.
يتجلى ذلك في ما حققه قطاع البناء والأشغال العمومية، الذي يُعد مرآة الاستثمار العمومي، حسب الخبير، والذي السجل نموًا بنسبة 5 بالمئة، مدعومًا بأوراش التهيئة المرتبطة بمشاريع كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030. كما ارتفعت مبيعات الإسمنت بنسبة 9,5 بالمئة في سنة 2024، في مؤشر قوي على اتساع رقعة الأشغال والتهيئة الحضرية.
ولأول مرة منذ سنوات، حققت الصناعة التحويلية نموًا بثلاث نسب مئوية، فيما قفزت الصناعات الاستخراجية بـ13 بالمئة. ويُعزى هذا الأداء إلى استراتيجية حكومية تهدف إلى تثبيت المغرب كمنصة صناعية إقليمية، خصوصًا في قطاعات الفوسفاط، الطاقات النظيفة، وصناعة أجزاء السيارات والطيران.
وارتفعت مداخيل الدولة الجبائية بـ +5,4 في المئة، خصوصًا الضريبة على الدخل التي تعكس تحسنًا في نسب الشغل والتوظيف النظامي. إلا أن الضريبة على الشركات تراجعت بـ 5,2 في المئة، “ما يكشف استمرار معاناة المقاولات من ضيق هوامش الربح وارتفاع التكاليف”.
كل هذه الإنجازات لا ينفيها، في المقابل، رئيس “مركز الدراسات والأبحاث عزيز بلال”، محمد شيكر، لكنه يرى أنه لا يمكن نسبها للحكومة؛ “الإنجازات التي تحققت سواء في الرياضة أو البنية التحتية أو الأوراش الاجتماعية ليست منجزات حكومة أخنوش، بل هي أوراش ملكية عُهِد للحكومة بتنفيذها فقط”.
الأكثر من ذلك، وفقا للخبير الاقتصادي ذاته، هو أن الحكومة أخفقت في تنزيل التوجهات الاستراتيجية للمملكة على مستوى الصحة والتعليم والتشغيل ومكافحة الفساد… وهو ما أدى إلى الانفجار الاجتماعي الأخير.
الإخفاقات.. التشغيل “كعب أخيل”
يبدو أن النقطة الاقتصادية السوداء للحكومة الحالية هي التشغيل؛ فالبطالة ضربت رقماً قياسياً تاريخياً لم يسبق له مثيل في تاريخ المغرب على الإطلاق، ناهز خلال السنة الماضية 13 في المئة.
في هذا السياق يرى إدريس الفينة، أن البطالة المرتفعة هي “قنبلة الشباب الموقوتة”؛ قائلاً إنه منذ سنوات، والجميع يتابع ارتفاع البطالة في المغرب، خصوصًا بين الشباب، والشباب المُكوَّن على وجه التحديد؛ “أكّدنا مرارا أنّ هذا الوضع يشكّل قنبلة موقوتة، ولا يمكن ترك الأمور كما هي، كثير من الأسر وجدت نفسها بعد سنوات من التربية والتعليم أمام شابٍ أو اثنين من أبنائها بلا عمل وعالة على الأسرة”.
الأرقام توضح أن معدل البطالة تراجع لاحقاً بإحداث الاقتصاد الوطني 157.000 منصب شغل، لينخفض بذلك معدل البطالة إلى 11,2 في المئة؛ “لكن خلف هذه النسبة تختفي فجوات مقلقة” يقول الفينة، فبطالة الشباب تصل إلى 33 في المئة، وبطالة النساء 17 في المئة، وبطالة حاملي الشهادات 18,5 في المئة.
الشيكر من جانبه لا يرى هذه البطالة المرتفعة في عهد حكومة أخنوش مجرد صدفة أو سوء حظ، بل نتيجة سياسة اقتصادية معينة، تركز على المقاولة لإحداث فرص الشغل، في وقت لا يشغل القطاع الخاص بالمغرب سوى 25 في المئة من الساكنة النشيطة.
“تبلغ الساكنة النشيطة حوالي 12 مليون نسمة، تتوزع بين 3,5 ملايين أجير مصرح به لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فقط، أي أن حوالي 3 أرباع فرص الشغل في المغرب يتم إحداثها بعيداً عن المقاولات الخاصة؛ وذلك علما أن السياسة التي تتبعها الحكومة هي سياسة تركز على المقاولة، أي أنها سياسة لا تهم سوى 25 في المئة من الساكنة النشيطة”.
واعتبر الشيكر في تحليله لجريدة “مدار 21” أنه بالتالي، فمبلغ 15 مليار درهم المخصص لدعم المقاولات من أجل خلق مناصب شغل يُمكن اعتباره تبذيراً للمال العام.
أما الفينة؛ فيرى في هذا السياق أن القطاع الخاص لم يعد يستثمر أو يوفّر فرص الشغل بالقدر الكافي، لأنه تحت وطأة عاملين قاسيين: الضغط الضريبي الذي وصل لنسب قياسية، وحجم الواردات التي بلغت مستويات تاريخية ودمّرت المقاولة المغربية من الداخل.
النمو لا يساوي العدالة الاجتماعية
وهكذا، وجدت الحكومة نفسها أمام تحدٍ هيكلي: “كيف نحافظ على زخم النمو ونربطه بعدالة اجتماعية قادرة على احتواء الإقصاء الاقتصادي المتزايد؟” يتساءل ادريس الفينة، مضيفاً أن النمو الاقتصادي علاوة على ذلك ما يزال هشًا أمام اختلالات الميزان التجاري، حيث تفوق الواردات (56% من الناتج) الصادرات (42%)، إضافة إلى ضغط العجز المالي الذي بلغ 54 مليار درهم.
أما الشيكر فجاء حكمه قطعيا وجازماً بأن “جيل زد” أصدر حكمه على الحكومة؛ التي فشلت فشلا ذريعا يفوق سابقاتها؛ إذ يرى الخبير أن المشكلة تكمن في أنه خلف السياسات الحكومية تختفي توجهات إيديولوجية وسياسية، وربما التزامات تجاه مؤسسات مالية دولية، الهدف منها ليس خفض عجز الميزانية بل فرض مرجعية اقتصادية جديدة، وهي في الواقع مرجعية قائمة منذ أزيد من 20 سنة، عبر تكريس استقالة الدولة من التزاماتها الاجتماعية.
يبدو إذن أنّ حكومة أخنوش، من الناحية الاقتصادية، ستمثل درساً في تاريخ الاقتصاد المغربي، مفاده أن الرهان على التنمية الاقتصادية وحدها لا يُعطي بالضرورة ثماره المرجوة؛ وأن التنمية، كما أكد اقتصاديون وسوسيولوجيون منذ عقود ينبغي أن تكون شاملة ومستدامة، تزاوج بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي وما هو بيئي.