هل تُفرغ ازدواجية السلطة بين المُنتخَب والمُعيّن انتخابات 2026 من محتواها؟

بالاطلاع على مذكرات الأحزاب السياسية الصادرة خلال الأيام الماضية بشأن انتخابات 2026 التشريعية، يتضح أن هاجس العزوف الانتخابي يؤرق بال المشهد السياسي عشية استحقاق سيفرز حكومة تسير البلاد في ظرفية دقيقة من تاريخها. أسباب العزوف الانتخابي يصعب حصرها في حيز مقال واحد، لكن يبقى أخطرها فقدان الثقة في العملية الانتخابية والنخب التي تتمخض عنها، لا سيما في ظل الازدواجية التي تطبع المشهد السياسي بين السلطة المُعينة من لدن الملك محمد السادس والسلطات المنتخبة.
طرحت جريدة “مدار 21” ثلاثة أسئلة حول هذا الموضوع على الكاتب والمحلل السياسي، عبد الله الترابي، الذي أكد أنه لا يوجد تعارض، من الناحية النظرية، بين السلطتين، في حين يُطرح المشكل على المستوى العملي. مضيفاً أن المغرب اختار في ما يبدو “التصور البراغماتي” في السياسة، الذي يُعلي من شأن النجاعة والأداء، على حساب التصور الديمقراطي، لا سيما في ظل تردي التكوين السياسي والتدبيري للنخب المنتخبة.
في ما يلي نص الحوار كاملاً:
يطرح بعض المتابعين للشأن السياسي مسألة ثنائية السلطة في المغرب بين المسؤول المعين من طرف الملك ونظيره المنتخب من لدن الشعب. هذا الوضع يدفع الكثيرين لفقدان الثقة في الانتخابات، ويطرح سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كان للمنتخبين صلاحيات حقيقية وكافية للاضطلاع بأدوار إصلاحية، أم أن أدوارهم لا تتجاوز حدود التنفيذ؟
نظريًا، لا يوجد تعارض بين السلطتين، فلكل هيئة صلاحياتها الخاصة التي يجب أن تؤديها بشكل متكامل مع الهيئات الأخرى. فعلى سبيل المثال، يتمتع البرلمان، وفقًا لدستور 2011، بسلطة كاملة في التشريع وإصدار القوانين دون أن ينازعه أحد. كما أن مجالس الجماعات المحلية والجهات، وهي هيئات منتخبة، تتمتع بصلاحيات واسعة في مجالات التعمير، والتخطيط الحضري، والنقل، وغيرها.
ومع ذلك، يختلف الواقع عن النظرية بشكل كبير. على مستوى التشريع، نجد أن غالبية القوانين تُصاغ من قبل الإدارة والتقنوقراط، بينما يبقى دور البرلمان محدودًا. يعود هذا القصور إلى عدة عوامل، منها ضعف التكوين لدى المنتخبين، ومحدودية الإمكانيات المتاحة لهم، وتدهور المستوى السياسي للبرلمانيين، وانحسار استقلاليتهم تجاه الجهاز الحكومي. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر الأحزاب السياسية في معظمها إلى بنيات فكرية تساعد المنتخبين على فهم دورهم التشريعي.
أما على المستوى المحلي والجهوي، فهناك هيمنة واضحة لممثلي وزارة الداخلية، ويعود ذلك إلى تغليب منطق الفعالية والسرعة في التنفيذ والامتثال للتوجهات العامة. في المقابل، تعاني المجالس المنتخبة من ضعف التكوين في مجالات التدبير، فضلًا عن هيمنة الأعيان وتبعيتهم للسلطة الإدارية. هذا الوضع يفرغ العملية الديمقراطية من محتواها، ويمنح شرعية لهيمنة ممثلي الدولة والإدارة على الهيئات المنتخبة حتى على مستوى الرأي العام.
يرى البعض أن هذه الازدواجية تمثل عقبة في وجه الديمقراطية بالمغرب، لأن المسؤول المعين لا يتحمل مسؤولية مباشرة أمام المواطنين، لكونهم لم ينتخبوه.
نحن هنا أمام تصورين:
* التصور الأول (البراغماتي): يرى أن الأهم هو الفعالية وتحقيق الشروط التقنية والموضوعية للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، مثل تطوير البنيات التحتية، وتحقيق الضبط الاجتماعي، وتنفيذ الاستراتيجيات الكبرى للبلاد. وهذا لا يمكن تحقيقه دون بنية تكنوقراطية وإدارية قوية، ممثلة في النخب العليا بالمؤسسات العمومية والقطاعات الحكومية.
* التصور الثاني (الديمقراطي): يؤمن بأن العملية الديمقراطية هي المدخل الرئيسي للإصلاح والتغيير، وأنها كفيلة، على المدى البعيد، بخلق الشروط الموضوعية للنمو والتطور الاقتصادي، عبر تحقيق السلم الاجتماعي، وتوزيع أفضل للثروات، وسيادة القانون.
في المغرب حاليًا، وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي والسياسي ما زال يتمسك بالاختيار الديمقراطي من خلال التركيز على الانتخابات، فإن الواقع يشير إلى أن التصور الأول هو المهيمن. بل وأصبح هذا التصور أقرب إلى قناعات المواطنين، كما يتجلى في شعبية بعض الوزراء التكنوقراط والولاة على حساب المنتخبين، بالإضافة إلى حالة الريبة تجاه العمل السياسي والحزبي، وضعف منسوب الثقة في المجالس التمثيلية الوطنية والمحلية.
كيف يمكن في نظرك ضمان التوازن بين هاتين السلطتين حتى لا تصبح تشريعيات 2026 بلا معنى دون المساس باستدامة المؤسسات؟
إن إيجاد توازن بين هاتين السلطتين يبدو صعبًا، خاصة في ظل غياب نخب سياسية جديدة ومستقلة تدافع عن قيم وتوجهات واضحة. يجب أن تتوفر في هذه النخب الخبرة التقنية والتكوين الذي يجعلها بديلًا ذا مصداقية للأطر التكنوقراطية.
إن الأوراش الحالية المرتبطة بأفق 2030 ستزيد من هيمنة البنية التكنوقراطية في البلاد، وتعمّق تبعية الهيئات المنتخبة لها، وذلك لكون المغرب ليس لديه الوقت الكافي لانتظار تأهيل نخبة سياسية عاجزة عن تأهيل نفسها.