سياسة

فوزي لقجع.. “مايسترو” المغرب 2030 ورجل ثقة الدولة

فوزي لقجع.. “مايسترو” المغرب 2030 ورجل ثقة الدولة

لم يكن اختيار فوزي لقجع رئيسا لمؤسسة “المغرب 2030” مفاجأة كبيرة لمن يعرف الرجل عن قرب، فقلما يبرز؛ في المغرب، مسؤول نجح في ترك بصمته في أكثر الحقول حساسية؛ المالية العمومية والرياضة الوطنية.

من مكاتب الميزانية، حيث يروّض الأرقام، إلى مدرجات الكرة، يمضي الرجل بخطى متسارعة، لكنها دقيقة في مراميها، وكأن ساعته لا تقيس الوقت بل المنجز على أرض الواقع، لكن بعيدا عن الأضواء وعن البهرجة الإعلامية.

ففي زمن يطغى فيه التخصص، اختار لقجع أن يكون استثناء، ليمخر عباب ملفات تقنية معقدة ومهام دبلوماسية رياضية حساسة. ليست صورته في ممرات “الكاف” أو “الفيفا” أو حتى تحت قبة البرلمان ما يستمد منه “كاريزما” يفتقدها الكثير من الوزراء ورؤساء حكومة، بل ذكاؤه الهادئ الذي ينتقل به بين لغة المال والأعمال الملغومة إلى لغة أهل الملاعب والمدرجات الصاخبة.

بكثير من الصمت وكثير من النتائج، خطف فوزي لقجع الأضواء من وزراء “حكومة أخنوش” مجتمعين، وأضحى وزيرا منتدبا مكلفا بالميزانية بصيت يتعدى حتى رؤساء تعاقبوا على رئاسة الحكومة.

بوأته شخصيته القيادية، وما يتحلى به من كفاءة وحنكة وخبرة، تولي عدد من المناصب الحساسة، سواء في عالم الرياضة أو في دوائر القرار الحكومي، فكفاءته يشهد لها العدو قبل الصديق، ومهامه المتعددة تجسيد حي لثقة مستحقة، ومسؤولية ثقيلة ألقيت على كتفين اعتادا حمل التحديات وتطويعها لإنجازات وطنية.

ابن مدينة بركان، المزداد في 23 يوليوز 1970، شق طريقه مع فريق مسقط رأسه بداية الألفية الثالثة من أقسام الهواة، وقاده ليصبح رقما صعبا في معادلة الدوري المغربي والمسابقات الإفريقية.

متسلحا بخلفية إدارية وتقنية في وزارة المالية، دخل تجربة “إنقاذ” نهضة بركان من براثن الهواية، لينجح خلال سنوات قليلة، في نقله من فريق مغمور إلى ناد يضرب له ألف حساب محليا بالعودة إلى قسم الأضواء (2012) بعد غياب استمر ربع قرن.

لقد كانت تلك أولى إشارات صعود المهندس الزراعي، الذي يؤمن بأن النتائج تبدأ من حكامة إدارية لا من موهبة اللاعبين فقط، إذ بعد عامين من إعادة نهضة بركان إلى قسم الأضواء، سيترأس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم (2014)، حيث واصل فلسفته التسييرية لإعادة كتابة تاريخ جديد لكرة القدم المغربية.

لقجع، أضحى اليوم وجه “العصر الذهبي” لكرة القدم المغربية بلائحة طويلة من الإنجازات، على رأسها بلوغ المربع الذهبي لكأس العالم بقطر 2022، ودور الـ16 لكأس العالم للسيدات، وتحقيق المركز الثالث في الألعاب الأولمبية باريس 2024، إضافة إلى الثورة التي قادها على مستوى البنى التحتية الرياضية، وهيكلة الأندية الوطنية، التي أضحت على مرمى حجر من الانتقال إلى نموذج الشركات الرياضية.

لم يكن صدفة، ولا من باب المجاملة أو الصدفة، جَمعُ لقجع بين الدقة المالية والنجاعة الرياضية، بل ثمرة مسار أكاديمي وعلمي، فخلفيته الرياضية الصلبة مع “فريقه الأم” وتكوينه في المدرسة الوطنية للإدارة (ENA)، جعلاه سفيرا فوق العادة للمغرب.

لذلك، فهو لا يبخل في توظيف كل النفوذ الذي راكمه على مدى السنوات العشر الماضية لخدمة المملكة، بتوجيهات من العاهل المغربي، ولم يكن مفاجئا أن يعهد إليه الملك محمد السادس في يونيو 2023 رئاسة اللجنة المسؤولة عن استعدادات المغرب لاستضافة كأس العالم 2030، بمعية جاريه الإيبيريين إسبانيا والبرتغال.

ووضعت الثقة أيضا في أقوى رجل في هرم وزارة الاقتصاد، الأسبوع الفارط، لقيادة مؤسسة “المغرب 2030″، التي ستسهر على إعداد وتنظيم التظاهرات الدولية المتعلقة بكرة القدم، بما في ذلك كأس إفريقيا وكأس العالم، وتتبع وتنفيذ مختلف الالتزامات المرتبطة بهما، وتقديم الدعم والمواكبة اللازمين للجهات والمدن المعنية بتنظيم هذه التظاهرات، بالإضافة إلى تعزيز صورة المغرب كوجهة لاستضافة الأحداث الكبرى.

وينضاف هذا المنصب إلى لائحة طويلة من المهام التي يشغلها رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، على رأسها النائب الأول لرئيس الكونفدرالية الإفريقية “كاف”، وعضو مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”، ما جعله فاعلا محوريا في الكرة الإفريقية والدولية.

اعتماره أكثر من قبعة وضعه تحت الأضواء الكاشفة للصحافة المغربية، الرياضية منها والاقتصادية وحتى السياسية، ما ضاعف الضغط على الرجل القادم من مسقط رأس أول رئيس حكومة في المغرب بعد الاستقلال.

يختار الرجل الأول في جامعة الكرة أوقات تواصله بعناية مدروسة، سيما في الجانب الرياضي، وخلفه فريق ينتقيه بمعيار الكفاءة لا الولاء، فهو يؤمن بقوة المجموعة. لذلك، بدأ، بعد أكثر من عقد في تدبير الشأن الرياضي، جني ثمار عمله التراكمي.

لم يأت الرجل الذي يطفئ يوم غد شمعته الـ55 ليرمم ما كان، بل ليقطع مع واقع معطوب شرّحته الرسالة الملكية للمناظرة الوطنية سنة 2008، ليؤسس لمرحلة جديدة، باستراتيجية وطنية تنضج عاما بعد آخر، وببنية تحتية بمعايير عالمية، وهي الرؤية المستمرة مع التحديثات التي تخضع لها الملاعب الكبرى استعدادا لكأس إفريقيا 2025 ومونديال 2030.

وتوصف حقبة فوزي لقجع بـ”الذهبية” نظير ما تحققه كرة القدم الوطنية قاريا وعالميا، فقد تأهل “الأسود” إلى نهائيات كأس العالم مرتين على التوالي “روسيا 2018” و”قطر 2022″، ونجح في الثانية في بلوغ نصف النهائي للمرة الأولى في التاريخ عربيا وإفريقيا، ويخطو بثبات نحو مشاركة ثالثة تواليا العام المقبل.

أيضا، توج منتخب أقل من 23 سنة، في حقبته، بطلا لإفريقيا سنة 2023 وتأهل لدورة الألعاب الأولمبية “باريس 2024″، التي احتل فيها المركز الثالث للمرة الأولى في التاريخ.

وإضافة إلى تتويجات وإنجازات باقي الفئات السنية للمنتخب، أولى لقجع كرة القدم النسائية اهتماما خاصا، التي تعيش اليوم “طفرة ناعمة”، بدأت بوادر نتائجها في الظهور بتأهل المنتخب النسوي لأقل من 17 عاما لمونديال الهند سنة 2022 لأول مرة في تاريخه.

الإنجاز ذاته كرره منتخب الكبيرات سنة 2023، عقب التأهل للمرة الأولى إلى كأس العالم بأستراليا واليابان، وهي النسخة التي أصبحت فيها “اللبؤات” أول منتخب عربي يشارك في المسابقة ويتجاوز الدور الأول، زيادة على بلوغهن نهائي كأس إفريقيا للمرة الأولى في التاريخ سنة 2022.

وتسير سيدات المغرب اليوم بخطى ثابتة في “كان 2025″، المقامة حاليا بالمغرب، لإحراز اللقب بعد بلوغهن المربع الذهبي.

لم يكتف فوزي لقجع بالرياضة، فتدرجه في المناصب بوزارة المالية، بدءا من مفتش مالي سنة 1997 وصولا إلى مدير للميزانية وهو في بداية عقده الرابع، بوأه اليوم حمل واحدة من أثقل حقائب الحكومة “الوزارة المنتدبة لدى وزيرة الاقتصاد والمالية المكلفة بالميزانية”، والتي يهندس من خلالها الإصلاحات المالية بالمغرب.

الوزير المنتدب أنيطت له، منذ سنة 2021، أهم الاختصاصات المسندة إلى السلطة المكلفة بالاقتصاد والمالية المتعلقة بتحضير مشاريع قوانين المالية والسهر على تنفيذها، والإشراف على النفقات المدرجة في فصل التكاليف المشتركة، إضافة إلى إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة والمديرية العامة للضرائب ومديرية الميزانية.

ونجح التقنوقراطي الملم بلغة السياسيين، والذي ينأى بنفسه عن ألوان الأحزاب، في تحقيق مداخيل ضريبية قياسية للمغرب سنة 2024، بنسبة إنجاز بلغت 110.8 في المئة مقارنة مع توقعات قانون المالية.

ووفق عرض حول حصيلة تنفيذ قانون المالية لسنة 2024 بالغرفة الثانية للبرلمان، كشف لقجع أن المداخيل الضريبية سجلت ارتفاعا بـ 37.6 مليار درهم مقارنة مع نتائج نفس الفترة من سنة 2023، موضحا أن تطور المداخيل بين سنتي 2020 و2024 عرف ارتفاعا بزائد 143.5 مليار درهم بالنسبة للمداخيل العادية، وبزائد 101.4 مليار درهم بالنسبة للمداخيل الضريبية، حيث بلغ متوسط المعدل السنوي لتطور المداخيل الضريبية زائد 7.9 في المئة بين 2020-2021، وزائد 11.9 في المئة بين 2021-2024.

هذه الانتعاشة الضريبية انعكست بشكل إيجابي على الاقتصاد المغربي، ففي وقت بلغ الدين العمومي ذروته سنة 2020، ليصل 72 في المئة من الناتج الداخلي الخام، تشير التوقعات إلى أنه سينتقل إلى ما دون 65 في المئة في أفق سنة 2030 بفضل الإصلاحات الضريبية للحكومة الحالية، وفق منصة “ستاتيستا” المتخصصة في البيانات.

الضربة القاسمة التي وجهها المغرب إلى الجزائر وذراعها الانفصالي “البوليساريو” داخل أروقة “الكاف” محطة بارزة في سجل الأهداف السياسية بالملاعب الرياضية، والتي كان فوزي لقجع واحدا من مهندسيها.

ونجح لقجع، خلال الجمع العام الاستثنائي للكونفدرالية الإفريقية، الذي أقيم في المغرب في مارس 2021، في تمرير تعديل على الفصل الرابع من النظام الأساسي للجاهز الوصي على اللعبة بالقارة، يمنع أي كيان غير معترف به من الأمم المتحدة من الانضمام للهيئات الرياضية، موصدا بذلك الباب أمام محاولات اختراق انفصالية كانت تسعى لتوظيف الرياضة في معارك سياسية خاسرة.

لقجع أعاد، بفضل مهارته في نسج شبكة العلاقات والنفوذ، رسم خرائط التأثير بالمشهد الرياضي القاري، واختصر المسافات نحو مراكز القرار بذكاء لافت، ليعيد للمغرب وزنه على المستوى الرياضي، بعد سنوات عجاف في حقبة الراحل عيسى حياتو، وليتولى من جديد زمام المبادرة وقيادة قاطرة كرة القدم الإفريقية بالقارة السمراء.

ولعل جمعه لما تفرق في غيره يفسّر “الطلب الكبير” على فوزي لقجع، الذي أضحى “قائد أوركسترا” داخل الحكومة، ورجل “العبور” بين لغة التقارير المالية الدقيقة، وصخب مدرجات كرة القدم، وبين كواليس “كاف” و”فيفا”، وقاعات البرلمان وأروقة مكاتب الدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News