رأي

السيادة الزرقاء: البحر كأفق استراتيجي لمغرب المستقبل”

السيادة الزرقاء: البحر كأفق استراتيجي لمغرب المستقبل”

في زمن يتعاظم فيه الصراع على الموارد وتتسارع فيه التحولات المناخية والجيو-استراتيجية، لم يعد البحر مجرد امتداد جغرافي أو فضاء طبيعي قابل للاستغلال العرضي. أصبح البحر اليوم معادلة سيادية بامتياز، ومجالًا مركزيًا في هندسة التنمية المستدامة. من هنا، يبرز الاقتصاد الأزرق ليس كتوجه بيئي أو اقتصادي عابر، بل كخيار استراتيجي يحتمه الواقع ويفرضه المستقبل، خاصة لدول مثل المغرب التي تتمتع بموقع بحري استثنائي وإمكانات مائية هائلة.

لقد أعاد خطاب جلالة الملك محمد السادس الموجه إلى المشاركين في قمة “أفريقيا من أجل المحيط” المنعقدة في نيس، توجيه بوصلة التفكير نحو ضرورة التملك الواعي والمتكامل للثروة البحرية، والانتقال من منطق الإمكان إلى منطق السيادة. فالمغرب، بما يملكه من واجهتين بحريتين تفوق مساحتهما 1.2 مليون كيلومتر مربع، وممر تتقاطع فيه أكثر من 20% من التجارة البحرية العالمية، ليس فقط بلدًا مطلًا على البحر، بل مرشح ليكون قوة بحرية وازنة في الفضاءين الإفريقي والمتوسطي.

ورغم هذا الزخم الطبيعي والجيواستراتيجي، لا تزال مساهمة الأنشطة البحرية في الاقتصاد الوطني محدودة ومجزأة. فالصيد البحري لا يزال تقليديًا في طبيعته، ويعاني من غياب سلاسل القيمة. وتربية الأحياء المائية، التي تعتبر من أهم دعائم الأمن الغذائي العالمي، لم تتجاوز بعد طور التجريب في المغرب، في حين أن دولًا مثل النرويج وتشيلي جعلت منها مصدرًا لمليارات الدولارات سنويًا. أما السياحة الساحلية، التي تمثل أكثر من نصف النشاط السياحي الوطني، فلا تزال رهينة الموسمية وضعف البنية التحتية البيئية.

وفي ظل الارتفاع العالمي لأسعار الطاقة، تغدو الطاقات المتجددة البحرية، مثل الرياح والتيارات والأمواج، موردًا استراتيجيًا لم ينل بعد ما يستحقه من الاستثمارات. ومع ذلك، تبقى هذه القطاعات مجرد وعود إذا لم تقترن بسياسات حكامة متقدمة، وبحث علمي موجه، ورؤية شاملة تجعل من البحر مجالًا للإبداع والابتكار، لا فقط للاستغلال الخام.

إن ربط المغرب لأسس الاقتصاد الازرق بالمبادرة الملكية الرامية إلى تأسيس فضاء تعاون بين الدول الإفريقية الأطلسية، يندرج ضمن هذه الرؤية الجيو-استراتيجية المتقدمة. اذ يعتبر هذا النوع من الاقتصادات ركيزة أساسية في تعزيز السيادة الوطنية، وهذا ما يعكسه بوضوح من خلال العلاقة الاستراتيجية بين الاقتصاد الأزرق والمبادرة الأطلسية. فالمغرب، بفضل موقعه الجغرافي الفريد، يمتلك إمكانيات بحرية هائلة على صعيد المحيط الأطلسي، مما يجعله لاعبًا رئيسيًا في تطوير هذه المنظومة.

وفي الوقت نفسه، تأتي المبادرة الأطلسية التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس لتعزز التعاون بين الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، بهدف تحقيق تنمية مستدامة للموارد البحرية وحماية البيئة البحرية، ما يعني أن هذه المبادرة تُعتبر فرصة لتعزيز التعاون الإقليمي في استثمار الموارد البحرية بشكل مشترك، مما يعزز من السيادة البحرية على المستويين الوطني والإقليمي، ويمنح الدول الأطلسية قدرة أكبر على التصدي للتحديات البحرية المتزايدة.

من جهة أخرى، وحتى نكون أكثر دقة في تحديد منطلقات العلاقة بين الاقتصاد الأزرق والمبادرة الأطلسية، يجب أن أحد أهم مرتكزات المغرب الحديث هو سعيه لتحقيق الاستثمار المستدام في الموارد البحرية، وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمبادرة في تعزيز الأمن الغذائي والطاقة المتجددة البحرية. من خلال تعزيز تربية الأحياء المائية، وتطوير الطاقات المتجددة من الرياح والأمواج، وبالتالي يفتح الاقتصاد الأزرق آفاقًا جديدة في مجالات الطاقة والغذاء التي تعتبر ضرورية لتحسين الوضع الاقتصادي في الدول الأطلسية، خصوصًا في إفريقيا، إذ أن هذه الاستثمارات تُعد جزءًا من الرؤية الاستراتيجية للمغرب التي تسعى إلى استغلال هذا القطاع لتعزيز السيادة الطاقية والغذائية في مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية التي يمر بها العالم، وفي نفس الوقت تساهم في تقليص الفجوات التنموية بين الدول المشاركة في المبادرة.

إلى جانب ذلك، تسهم المبادرة الأطلسية في تعزيز التعاون بين الدول حول قضايا السيادة البحرية، مثل تطوير الأسطول البحري، تعزيز البحث العلمي البحري، والمشاركة في مبادرات حماية الموارد البحرية. ذلك أن التعاون البحري بين الدول الأطلسية يفتح المجال أمام المغرب لإطلاق مشاريع مشتركة ذات بعد استراتيجي، مثل تعزيز البحث العلمي في التكنولوجيا البحرية، والذي يسهم في تطوير صناعة السفن الذكية، والاستشعار البحري، ورفع مستوى القدرة على مواجهة التغيرات المناخية.

من خلال هذه الديناميكية التعاونية، فإن الاقتصاد الأزرق يصبح محركًا رئيسيًا لتعزيز السيادة الوطنية والإقليمية في المحيط الأطلسي، مما يساهم في رفع مستوى نفوذ المغرب في المحيطين الإفريقي والمتوسطي، ويضمن له دورًا محوريًا في صياغة السياسات البحرية في المستقبل.

بناء على ذلك، يغدو الاقتصاد الأزرق ورشًا سياديًا يمتحن فيه المغرب مدى قدرته على توجيه نموذجه التنموي الجديد نحو فضاءات غير مستكشفة بعد. وذلك لن يتحقق إلا عبر إصلاحات عميقة على خمسة مستويات مترابطة: تنطلق من تنويع القاعدة الاقتصادية الوطنية عبر إدماج الأنشطة البحرية عالية القيمة في نسيج الاقتصاد، ثم تعزيز السيادة الغذائية والطاقية من خلال تطوير تربية الأحياء المائية وتحلية مياه البحر، مرورا بتمويل المقاولات الزرقاء وتشجيع الابتكار البحري، وكذا توسيع الحضور الجيو-بحري المغربي عبر تطوير الأسطول وتعزيز الدبلوماسية البحرية، وصولا إلى إرساء حكامة بحرية متعددة المستويات تشمل الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.

مما لاشك فيه اليوم، أن المملكة تملك رأسمالًا بحريًا غنيًا، لكنه هش ومجزأ. والاستثمار فيه أصبح ضرورة لا محيد عنها. على اعتبار أن من لا يملك رؤية بحرية في عالم تصوغه الجغرافيا الزرقاء، سيفوته ليس فقط قطار التنمية، بل أيضًا قطار النفوذ الاستراتيجي.

إن المغرب، برؤية ملكية بعيدة النظر، أمام فرصة تاريخية لصياغة دوره البحري الجديد، ليس فقط كدولة مطلة على البحر، بل كقوة بحرية صاعدة، تساهم في بناء سيادة جماعية إفريقية، وتدافع عن مصالحها في بحر متغير، لا يرحم من يتردد أو يتأخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News