رأي

هل ينجو اصلاح المدونة من الاستغلال السياسي؟

هل ينجو اصلاح المدونة من الاستغلال السياسي؟

بتاريخ 26 شتنبر 2023 وجَه جلالة الملك محمد السادس رسالة الى رئيس الحكومة، بصفته أمير المؤمنين تتعلق بإعادة النظر في مدونة الاسرة بعد 20 سنة من تطبيقها، ولاّفت في الرسالة هو استعمال صفة امير المؤمنين، وليس صفة ” الملك رئيس الدولة ”  وفق منطُوق الفصل 41 من الدستور، بمعنى أن موضوع مدونة الاسرة يدخُل ضمن الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين والمخولة حصرًا له، وليس بصفته رئيس الدولة وفق منطوق الفصل 42 من الدستور.

وقد بدا لافتاً في بلاغ الديوان الملكي ورُود ملاحظتين أساسيتين ترتبطان بهذا الملف الحساس، أولاً الإحالة الى خطاب العرش لسنة 2022 نظرًا لرمزيته في رسم التوجهات الكبرى للدولة، والذي خُصص بشكل واسح حول للحديث عن أهم الإصلاحات التي يعتبرها الملك أساسية في مسار البلاد، مند بداية العهد الجديد  ، منها إصدار مدونة الأسرة، واعتماد دستور 2011، الذي كرس المساواة بين المرأة والرجل، في الحقوق والواجبات.

وكان الخطاب الملكي في غاية الدقّة والحَسم عندما قال صراحة ” وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية ” بما يُفيد انه لا مجال لعودة لاحتقان المجتمعي والتجاذب السياسي والايدلوجي الذي رَافق الصيغة الأولى من المدونة، بعدما كانت خطة لإدماج المرأة في التنمية في حكومة التناوب بقيادة المرحوم عبد الرحمان اليوسفي.

الملاحظة الثانية، هو حرص بلاغ الديوان الملكي وخطاب العرش على إضفاء طابع المقاربة التشاركية في صياغة أرضية، وتقتضي التعليمات الملكية، برفع مُقترحات التعديلات التي ستنبثق عن هذه المشاورات التشاركية الواسعة، إلى جلالة الملك أمير المؤمنين، في أجل أقصاه ستة أشهر، وذلك قبل إعداد الحكومة لمشروع قانون في هذا الشأن، وعرضه على مصادقة البرلمان.

وبالتالي الى هنا، تبدو أن هناك كل ضمانات الدستورية والمنهجية لإنجاز اصلاح مجتمعي عميق ، كان ولا زال موضع جدل تاريخي قائم، وفق منهجية مُتّزنة ومتهيئة لنقاش مُجتمعي عمومي راشد ومنتج.

بدايات هادئة واستشارات واسعة

يوم الأربعاء 01 نونبر 2023 دشنت اللجة المكونة من وزير العدل ووزيرة  الاسرة والتضامن و رئيس النيابة العامة ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئيس المجلس العلمي الأعلى ورئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان ، بداية المشاورات ، ابتداءً من مقر الرابطة المحمدية للعلماء، وليس في هذا صُدفة ، بل دلالة قوية على حضور البعد الديني والشرعي في الموضوع خُصوصًا في مجال الأحوال الاسرية والارث، وعمليا بلغ عدد جلسات الاستماع  130 جلسة، تم الاستماع خلالها إلى عدد كبير من الجمعيات وعدد من الأحزاب السياسية و12 مركزا بحثيا وثماني هيئات مهنية وخبراء لهم علاقة بمدونة الأسرة.

اذن ضمانات التعددية واستيعاب تعدد مداخل معالجة إشكالية المدونة وتطبيقاتها، خُصوصا في الجانب القضائي والسيوسيولوجي والتشريعي والسياسي، متوفرة، وتبدو واضحة من خلال الكم الهائل من جلسات الاستماع والمذكرات التي اكيد أنها ستوفر مادة غنية للإلمام بكل مناحي القصور في النص الحالي، الى جانب، منح مجال أوسع للمقترحات التي تساعد على إغناء النص المقبل بعد ان تعمل الحكومة على تحويله الى مشروع قانون يُحال على البرلمان.

لكن فجأة ودون سابق اندار، بدأ النقاش يرمي بشَرر، وانفجرت حروب كلامية قادمة من مقرات أحزاب المعارضة، حول المدونة المستقبلية بشكل شوشر على النسق الرصين الذي كانت تمضي به المشاورات، بشكل يُفيد لا شك، ان أحزاب المعارضة، المُنهزمة في الانتخابات الأخيرة، بشقيها اليساري والإسلامي، تُريد أن تجعل المدونة معركة للعودة الى الساحة السياسية، ولو بخلق ضجيج كثيف وتوسيع دائرة التقاطب المجتمعي.

جمر الأيدولوجيا القابع في قاع السياسة

وفجأة ودون مقدمات، تحول حُلفاء الامس في الحكومات السابقة، التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي، من زملاء حصيلة حكومية عاقبها الناخب المغربي، الى أعداء في ساحة حرب مفتوحة تم فيها استعمال كل الأسلحة، الى درجة التشكيك في اسلام الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي قال فيه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية انه رأي الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية يصلي لكنه، لكنه لم يرى لشكر يصلي…

بما يفيد أننا في زمن محاكم التفتيش والكشف على النوايا، والغريب إن بنكيران حشد جُزء من التيار المحافظ الذي يخاف من أن يتم علمنة المجتمع المغربي في غَفلة من أمره، وقام حزبه بتنظيم مهرجان خطابي في الدار البيضاء ” في إشارة الى مسيرة الدار البيضاء ” لكي يُمارس فيه هواته المفضلة، والتي هي ابتزاز الدولة، في كل اللحظات الفارقة، قائلا اننا مستعدون لتنظيم مسيرة ملونية جديدة في إشارة الى تقاطب سنة 2000.

في ظل هذه الضوضاء التي حولت النقاش العمومي تم رَمي مُغالطات عديدة خلقت حالة من البلبلة والارباك المجتمعي مثل موضوع ترخيص الإجهاض وإثبات النسب، وموضوع المناصفة في الإرث والتعصيب، وموضوع قسم الثورة بين الزوجين في حالة الطلاق …

وباقي القنابل التي تلقى هنا وهناك دون ان نعرف مصدرها وسياقها. لكن تلقى لها صدىً في شبكات التواصل الاجتماعي في مُستنقع الاخبار الزائفة والمُضللة. وهي الخطر الأكبر الذي يهدد البشرية اليوم.

في ظل هذه الضوضاء ذات النوعية الوظيفية البيّنة نجد إن الأحزاب الحكومية وخُصوصًا حزب التجمع الوطني للأحرار الذي يقود الحكومة والذي يُمارس نوع من الهدوء السياسي، ونوع من الرزانة السياسية في التفاعل الذكي مع هذا الملف، حيث إنه شكل لجنة موسعة داخلية ضمن اطر الحزب وهيأته المهتمة، وعملت على رفع مُقترحتها الى اللجنة الاستشارية دون الكثير من اللغط.

بالرغم من أن الحزب يحوز مكانة سياسية مؤثرة في المشهد السياسي عبر رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب، ومع ذلك، لا نجد أي توظيف لهذا الملف من اجل حيازة مكاسب سياسية او انتخابية في المرحلة المقبلة. بل الحزب نظم قمّة دولية للمرأة التجمعية حضرتها 2000 سيدة وشابة، خُصصت للنقاش حول التَمكين السياسي والاجتماعي والمعرفي للنساء، ولم يصدُر أي موقف للحزب في موضوع والرسالة واضحة، ان لا شوشرة على ملف، الذي هو بيد أمير المؤمنين.

إن حساسية ملف مثل مدونة الاسرة، وما يرتبطُ به من تفرعات قانونية وقضائية واجتماعية تمسُّ 40 مليون مغربي، دون استثناء ـ و لا يجب ان تكون موضوع توظيف سياسوي، او استغلال انتخابي، او تدافع أيديولوجي، مهما كانت غنائمه ومكاسبه ـ لكون الملف مند الوهلة الأولى جاء كمبادرة من الملك، ولم نسمع الأحزاب السياسية تتكلم عنه، وهو الان حالاَ ومستقبلاً بيد امير المؤمنين الذي رمز وحدة الامة، ويضمن الرأي الغالب في المجتمع، وليس مواقف الاتجاهات السياسية الظرفية.

من جهة أخرى الملف مزال في بداية المشاورات ولم يصل أصلا الى مرحلة التحكيم الملكي مما يطرح سؤال عريض عن جدوى حرب استعراض العضلات السياسية التي انطلقت، والتي لا غاية لها الا الاستغلال السياسي لملف يهم المجتمع بأكمله. وليس فقط الحداثيين وجزء من الإسلاميين. لذا يجب على هؤلاء الذين يملؤون اليوم الفضاء الإعلامي والسياسي ضجيجا مُلوثًا ، وان يستعصموا بممارسة فضيلة الاستعفاف السياسي، وترك النقاش المؤسساتي يأخذ منحاه الطبيعي للوصول الى نص يهمُّ الامة المغربية برُمتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News