رأي

ثلاثة سناريوهات أمام احتجاجات الأساتذة

ثلاثة سناريوهات أمام احتجاجات الأساتذة

يبدو أن إضرابات واحتجاجات هيئة التدريس ستُطرق بقوة أشد أبواب الحكومة المغلقة بإحكام، وأن هذه الأزمة يحتمل أن تزداد اشتعالا بسب إصرار رجال ونساء التعليم على المضي قدما في برامج نضالية تصعيدية ضد مواد ومضامين النظام الأساسي المجحف حسب تعبيرها. مقابل هذا العزم على التصعيد تظل الحكومة هادئة تراقب تطورات الوضع، وتخرج أحيانا بتصريحات باردة جدا، تؤكد فيها على العمل بإجراء الاقتطاع عن الإضراب وتدافع عن قانونيته، وبذلك ترفع مستوى التحدي والعناد حسب تعبير هيئة التدريس.

يزيد هذا الواقع المأزوم من احتمال تصاعد الأزمة، في ظل تمسك كل طرف بمواقفه، في المقابل تظل أجيال المستقبل من أبناء المغاربة في الزاوية على هامش هذه الأزمة بلا أي اعتبار، وخاصة تلاميذ البوادي والأحياء الحضرية الفقيرة الذين يشكلون وقود العناد الحكومي، إن هذا الوضع الذي يبشر حسب بعض الملاحظين باحتمال السير نحو سنة بيضاء، يضع شعار “الحكومة الاجتماعية” على المحك، ويزيد من الحرج الحكومي في الالتزام الفعلي “بمبدأ الديمقراطية التشاركية ومقاربة الحوار الاجتماعي”.

تطورات درامية ومخجلة جدا يمكن أن تشهدها الساحة التعليمية، خصوصا بعد تزايد الاحتقان بين صفوف التلاميذ وذويهم، حيث سجلت الكثير من المديريات وقفات احتجاجية لهؤلاء، لكن الأفدح من ذلك كله هو تلويح هيئة التدريس عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بعزمها على خوض أشكال نضالية بديلة وغير مسبوقة، تتوزع بين ما هو قضائي واقتصادي- مالي ووجودي أيضا. تزداد فرضية الصدام جراء الصمت الحكومي والرهان على الزمن والاستنزاف السيكولوجي باعتماد اللامبالاة المحبطة كآلية لكبح الاحتجاجات، وأيضا الاستنزاف المالي باعتماد اقتطاعات يبدو أنها ستكون ثقيلة كآلية لترويض رجال ونساء التعليم. إلا أن المتتبع لما يروج من معلومات بين التنسيقيات، يستنتج بلا شك في أن هذه المنهجية لا تضمن عودة الأساتذة إلى أقسامهم، بعد أن أصبحت القضية بالنسبة إليهم “قضية كرامة قبل كل شيء”، ومن المحتمل أن تتفاقم هذه الاحتجاجات التي ظلت النقابات عاجزة عن قيادتها أو إطفائها ببياناتها المطمئنة.

رغم المسار السلبي لهذه الأزمة وخيبة الأمل الملحوظة لدى المغاربة، فقد سجل يوم 10 نونبر، منعطفا حقيقيا في خطاب الحكومة، على لسان السيد وزير التربية الوطنية الذي اعتذر للأساتذة، ويتوقع أن يكون هذا الاعتذار – إذا لم يكن موجها للاستهلاك الإعلامي طبعا، بداية حقيقية للانفراج، وذلك بإطلاق جلسات للحوار والتفاوض حول مضامين النظام الأساسي وأيضا حول كل القضايا الفئوية العالقة منذ سنوات، لكن في المقابل يظل الشك قائما في مدى قدرة الطرفين على تدبير الاختلافات وتقريب وجهات النظر. ولهذا فإن هذه أزمة التعليم أمام ثلاثة سيناريوهات أساسية متباينة.

  • السيناريو البيروقراطي: شكل إخراج النظام الأساسي لموظفي التربية الوطنية وصدوره بالجريدة الرسمية، دون أي اكتراث للرفض المطلق لتسريباته من طرف قواعد النقابات من رجال ونساء التعليم، تجسيدا حقيقيا “لبيروقراطية ناعمة” اعتمدت قرارات فوقية بإشراك القيادات النقابية فقط، كحل للإشكاليات وفق منهج تشاركي صوري لتنزيل الإصلاح. حسب السيناريو البيروقراطي يُحتمل أن تقوم الوزارة وبإشراف حكومي بمراجعة شاملة للنظام الأساسي، مع إقرار زيادة معينة في مكونات الأجرة تنسجم مع منطق العدالة الأجرية، وهذا سيكون كعرض حكومي أحادي الجانب لإنهاء الاحتجاجات، يقوم على تعديل مواد النظام المثير للجدل ويؤجل الملفات الفئوية العالقة والتي لم تتضمن مواد النظام الجديد أي حل لها. رغم أهمية هذا السيناريو كحل يمكن اعتماده، يظل مستبعدا لسببين أساسيين، يتمثل الأول في منهجية العمل الحكومي والتي تتأسس على الحوار مع النقابات لحلحلة الملفات العالقة في إطار تفعيل الديمقراطية التشاركية، إضافة إلى ذلك يُستبعد أن تغامر الحكومة، بعرض مُحفز وأحادي الجانب ربما يزيد من تطلعات هيئة التدريس التي لن ترضى طبعا بتسوية انتقائية للملفات العالقة. أضف إلى ذلك ستكون الحكومة مُجبرة وفق هذا السيناريو على التراجع عن قرار الاقتطاع عن الإضراب لضمان وجاهة ومقبولية عرضها، ونعلم مدى حساسية “التراجع عن القرارات” بالنسبة للسلطة الحكومية المغربية التي تفكر بمنطق الهيبة واليد العليا. أما السبب الثاني فيتمثل في موقف هيئة التدريس التي ترى أنها قطعت أشواطا كبرى في معركتها الحقوقية، وأن التراجع للخلف لم يعد ممكنا، كما أن القبول بأنصاف الحلول هو أيضا لم يعد ممكنا. وبالتالي هذا السيناريو يظل مستبعدا إذ لا يوافق لا العقلية السياسية الحاكمة ولا العقلية الاحتجاجية المغربية.
  • السيناريو الصدامي: يتميز هذا السيناريو بنمطين للصدام، الأول يتمثل في الصدام العنيف، ويتجلى في مواجهة الاحتجاجات بالاستعمال المفرط للعنف، الذي يبدو أنه من المستحيل أن يحدث لسببين أساسيين، الأول هو التوجه الحقوقي للدولة المغربية، التي قطعت مع ما كان يسمى بالعنف الدموي في إخماد الاحتجاجات والذي ميز أحداث القرن الماضي، يتأسس هذا التوجه السياسي والحقوقي الحديث، على مشروعية استعمال العنف غير الدموي، وذلك بتفريق التظاهرات والاعتصامات إن اقتضى الأمر. أما السبب الثاني فيتمثل في الحجم الضخم للفئة المحتجة، وعلى سبيل المثال فقد أظهرت مسيرة 7 نونبر بالرباط، استحالة استعمال العنف لتفريق التجمعات الضخمة للمتظاهرين، لأن أي تدافع يمكن أن يُحدث كارثة إنسانية حقيقية، إلى جانب ذلك يجب استحضار المكانة الاعتبارية لهيئة التدريس، إذ لم يعد ممكنا تقبل تعنيف فئات تتميز بأدوارها الحيوية وتطالب فقط بالجلوس إلى مائدة الحوار. أما النمط الثاني للسيناريو الصدامي فيتجلى في الصدام السلمي، ويتمثل في استمرارية نهج الحكومة لمنطق الهدوء والمراقبة وإجراء الاقتطاع وربما تبحث في أشكال ضغط أخرى، مقابل استمرار هيئة التدريس في خوض الإضرابات والمسيرات وتفعيل الأشكال النضالية البديلة كما يصفونها، يتميز هذا السيناريو باحتمالية سنة دراسية بيضاء، يبدو أن الدولة المغربية حكومة وشعبا غير مستعدين لها ويستحيل أن يسمحا بحدوثها، لعدة عوامل منها ما هو سياسي ومنها ما هو تربوي وأيضا ما هو اقتصادي اجتماعي، ولعل “اعتذار السيد الوزير” لهيئة التدريس يُبطل السير صوب هذا السيناريو الذي يظل أيضا مستبعدا.
  • السيناريو التفاوضي: يعتبر هذا السيناريو هو الأكثر توقعا بالنظر إلى جملة من الأسباب، ولعل أبرزها ترسيخ العبد الاجتماعي للحكومة الحالية، التي تسابق الزمن لحصد الكثير من المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية تضمن لها انتزاع ولاية ثانية بشكل مريح، أضف إلى ذلك الضغط الذي يزداد على الوزارة ومن خلفها الحكومة، من طرف الأسر المغربية التي تساند الأساتذة في مطالبهم. تزداد وجاهة هذا السيناريو جراء التخوفات من تصاعد احتجاجات التلاميذ وذويهم، وكذلك من مآلات تصعيد التنسيقيات وتفعيلها للأشكال النضالية غير المسبوقة والتي لوحت بها مؤخرا، خصوصا وأن هذه التنسيقيات أظهرت تماسكا ملحوظا واتخذت موقفا صارما أمام بيانات بعض النقابات التي دعت منخرطيها إلى العودة للأقسام. وبالتالي فالاستمرار في الإضراب عن العمل وتنظيم مسيرات حاشدة بالكثير من المدن وأيضا العزم على خوض اعتصامات – إن اقتضى الأمر حسب هيئة التدريس، مؤشرات قوية تُمهد لمنعرج خطر تدنو صوبه هذه الأزمة، لذلك ستعمل الحكومة بلا شك على تفاديه، لأنه أولا وقبل كل شيء يسيء إلى سمعة المغرب، الذي راكم تجربة رائدة في التقدم الهادئ على مختلف الأصعدة، وأصبح نموذجا للتطور والتنمية على المستوى المغاربي والإفريقي. علاوة عما سبق، فإن قراءة الحكومة لطفرة السلوك الاحتجاجي لدى رجال ونساء التعليم، الذين يشكلون قاعدة ضخمة من الموظفين، ساهمت على مر التاريخ المغربي بمواقفها في تحقيق السلم الاجتماعي وأحيانا في تهديده، قراءة ستعمق بلا شك التخوفات من تبعات هذه الحركة الاحتجاجية وما يرتبط بها من “ذاكرة نضالية” يمكن أن تنبعث من جديد أمام أي مثير في المستقبل. وفي هذا السياق ومرة ثانية، يشكل اعتذار السيد الوزير منطلقا لحسن النية وطي صفحة هذا الصدام، لكن بشرط وجود إرادة سياسية حقيقية وليس مجرد ذر الرماد في العيون ودغدغة العواطف وشحن الانفعالات، فحسن النية ترافقه إجراءات عملية تتمثل في رفع الاقتطاع ثم الجلوس إلى مائدة الحوار والتفاوض. يطرح هذا السيناريو إشكالية حقيقية تتعلق بالطرف المفاوض للحكومة، فهل يقتصر الأمر على النقابات فقط، وهذا طبعا سيرفضه الأساتذة بالنظر إلى “مشكلة الثقة” ولأنهم يعتبرون التنسيقيات هي الممثل الفعلي لهم، وفي المقابل الحكومة سترفض أن تحاور التنسيقيات بشكل مباشر، نظرا لعدم تمتعها بالصفة المؤسساتية والقانونية، وأيضا لعددها العريض الذي يبلغ 19 تنسيقية، إضافة إلى تخوفها من تكرار التجربة بقطاعات أخرى. كحل وسط لهذه المعضلة يمكن أن تكرر الحكومة، تجربة التفاوض لسنة 2016 مع فوج الأساتذة المتدربين، ويعني ذلك أن مائدة الحوار ستضم النقابات إلى جانب تمثيلية عن التنسيقيات. رغم وجاهة وأهمية هذا السيناريو فإنه يواجه تحدي حقيقي، يتمثل أولا في احتمال اشتراط التنسيقيات “رفع الاقتطاع” كبادرة لحسن النية ومدخل للحوار، وثانيا في العدد الهائل للملفات العالقة وأيضا في الخلاف العميق والجوهري حول مواد ومضامين النظام الأساسي. لذلك يُمكن أن يسير التفاوض نحو رفع الاقتطاع أولا ثم تدبير التنازلات والتوافق حول مواد النظام الأساسي وذلك بمراجعة شاملة لمضامينه، إلى جانب التفاهم حول نمط التحفيز الذي سيتم تنزيله، كما يمكن أن تحسم جلسات الحوار في بعض الملفات التي تراها الأطراف المتحاورة أنها مستعجلة ولا تقبل التأجيل وعلى رأسها العدالة الأجرية. باختصار السياسة هي فن الممكن والجلوس إلى مائدة الحوار يجعل كل شيء ممكنا، ما دامت هناك نية حقيقة لحلحلة الأزمة وما دامت هناك إرادة سياسية صادقة لإنقاذ الموسم الدراسي من شبح سنة بيضاء. يتطلب هذا السيناريو أن تحتكم كل الأطراف إلى مصلحة المدرسة العمومية، وبذلك سيتقدم الحوار وسيفضي بلا شك إلى نظام أساسي جديد عنوانه الإنصاف والتحفيز، نظام يعترف بالأستاذ كحلقة أساسية في إصلاح التعليم.

إذا ذهبت إلى سنغفورة أو فلندا أو أي دولة رائدة في تطوير أنظمة التعليم، ستجد بلا شك في أن إصلاح هذا القطاع الحيوي كان على الدوام يبدأ من القاعدة، يعني ذلك أن الاهتمام الفعلي بالمدرسين من حيث التكوين المستمر والتحفيز على العطاء وأيضا العناية بظروف العمل والتجهيزات، كلها مسلمات تشكل أولوية الإصلاح وقوامه، أي أن التخطيط للإصلاح يجب أن يبدأ باستكشاف كل ما هو محلي “المؤسسات التعليمية وفُرقها التربوية والإدارية ومحيطها الاجتماعي” ثم الإنصات لكل الأطراف وعلى رأسهم الأستاذ لأنه المسؤول المباشر عن زرع بذور الإصلاح وقطف ثماره. عبر العالم بأسره لم يكن لإصلاح أي نظام تعليمي أن ينجح، باعتماد مقاربة البدء من الأعلى، بتقارير مستوحاة من القمة، لأن أعلم الأشخاص بمشاكل التعلم والتعليم هم من يمارسونه في الفصول الدراسية. وبالتالي كيف نقوم نحن المغاربة بإصلاح نظامنا التعليمي دون إنصات للمعلمين ودون تحفيز لهم على الانخراط في مسلسل الإصلاح بروح يطبعها الإبداع والجدية والتفاني في العمل، بل على العكس تماما، واقعنا يقول؛ إن حكومتنا كعادة السابقات تصلح التعليم من أعلى وتقع بذلك في ضرب الدعامة الأساسية للمنظومة، تقوم بانتهاك كرامة المعلم، وبتهميش الدينامو المحرك لمشروع الإصلاح – حسب منطوق التقرير العام للنموذج التنموي الذي يشكل المرجعية السامية لهندسة معالم الإصلاح والتنمية عموما.

إذا تأملنا مسلسل إصلاح التعليم المغربي على مر العقود الماضية، سنجد أن وصفات الإصلاح كانت دائما وصفات “سريعة وجاهزة ومعلبة” يتم إسقاطها من القمة دون أي اعتبار للظروف والتعقيدات الواقعية والشروط والإكراهات المهنية، تُسقط بسرعة فتنكسر على صخرة الواقع الصلب والمعقد والمتشابك، للأسف هذه الوصفات استغرقت الزمن والتهمت الأموال وأضرت بالأجيال، بلا حساب وبلا عقاب. لذلك من الغباء أن يتم تكرار نفس التجربة والتمسك بنفس منطق “الإصلاح من أعلى” منطقا أفلس بشكل تام كما أكدت تجاربنا الإصلاحية على الدوام… هذا هو موقف العقل الذي عبر عنه أعقل العقلاء ألبرت أينشتاين بقوله “الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News