ثقافة | حوارات

بوطيب يُطارد “ذكريات ضائعة” في رواية “نفس الله” لجعل ألم الماضي طاقة للمستقبل

بوطيب يُطارد “ذكريات ضائعة” في رواية “نفس الله” لجعل ألم الماضي طاقة للمستقبل

يستعد الكاتب والحقوقي المغربي، صاحب رواية “الشجرة الهلامية”، عبد السلام بوطيب، لإصدار عمل أدبي سردي جديد في الأيام المقبلة، اختار “نفس الله” عنوانا له.

ويكشف بوطيب، في حوار مع جريدة مدار21، كواليس هذا الإصدار الروائي المرتقب، ثم يعرج على الحديث عن المواضيع التي يتطرق إليها، مبرزا أن أجمل ما في الكون أن تعرف كيف تحكي للناس قصصا عشتها، تحوّل ألم الماضي إلى طاقة في المستقبل.

كيف تولدت لديك فكرة تأليف رواية “نفس الله”؟

الأمر بسيط جدا، على الروائي أن يختار سرد القصة التي يعتبرها حيوية بالنسبة له وحكيها لمحطيه وللناس، لذا فما أكتبه بصفتي روائيا يعكس ما يختلج بدواخلي، في المنطقة الممتدة بين القلب والعقل، قبل أن يكون رغبة لي في الكتابة فقط.

وما نكتبه يعكس كذلك طبيعة الحياة التي عشناها أو نعيشها. أرى أن حياتي لم تكن عادية، وأن مساري فيها لم يكن عاديا أيضا. و”اللاعادي” هذا، إن صح التعبير، هو ما ساهم في أن أكون كما أنا، حقوقيا هادئا غير متشنج، وإنسانا متفائلا إلى حدود غير معقولة لمن عاش ظروفي الأسرية والاجتماعية والاقتصادية نفسها، وفاعلا سياسيا طلّق الوهم بالثلاث وما يزيد، وروائيا في بداية خريف العمر. كان من الممكن لولا “اللاعادي” هذا أن أكون مثل غالبية أبناء جيلي، أن أشيخ هنا أو في المهجر، قبل أن يهجم الشيب على قلبي، ويكتسح رأسي.

ويتجلى “اللاعادي” هذا، الذي ولدت، أو قل، الذي انفجرت منه في ما يلي:

أولا: ولدت في منطقة عاش ويعيش أهاليها على إيقاع الذاكرة والتذكر بشكل مفرط، ولكي أصبح روائيا بينهم، أنا المهتم بالبعدين السياسي والحقوقي للذاكرة، كان علي أن أضبط التذكر على إيقاع ما، فاخترت الإيقاع الأدبي الحقوقي، مبتعدا عن إيقاع العامة المفرط في السياسوية وفي اللا معنى. لأن هذا الإيقاع يجعل من المرء راويا لا روائيا، راويا يلهث وراء أحداث قد تكون قد وقعت، أو لم تقع أصلا. وهذا الاختيار سمح لي أن أساهم في الحد من الأثر السلبي للإيقاع السياسوي وإيقاع “اللامعنى” على الفعل السياسي وحياة الناس.

ثانيا، اعتقلت شتاء سنة باردة مضت وأنا لم أتخلص بعد من طفولتي، ولم أكن مؤهلا لكل العذاب والألم الذي قاسيته وعشته بمرارة لا يمكن وصفها، ما جعلني في الفترة التي أعقبت “خروجي” من السجن أقرأ اعتقالي التعسفي، الذي وصفته خلال مشاركتي في جلسات الاستماع العمومية التي عقدتها هيئة الإنصاف والمصالحة بـ”الهمجي”، من زوايا متعدد تطلبت مني أن أكون حقوقيا، أي فاعلا وباحثا في مجال أخلاقيات حقوق الانسان، في بداية حياتي السياسية، وروائيا في بداية المعركة ضد تقدم الشيخوخة، لأفهم أكثر ما وقع لي ولنا، وبالدقة الضرورية لأستمر في الحياة متفائلا، وأزرع الأمل في المستقبل، وأن أكتب نوعا جديدا من الرواية؛ خليط من الكتابة الروائية التي تضبط إيقاع الذاكرة و التذكر حقوقيا من أجل بناء قواعد العيش المشترك، وإيقاع السيرة الذاتية لقهر الأنا التي لا تسمح للمرء بالمساهمة الإيجابية في بناء المشترك الإنساني الضروري.

ثالثا: من حسن حظي أنني كنت من قادة الحقيقة والإنصاف والقابلين للمصالحة بقلب منشرح في بلدي، مما سمح لي أن أعيش قصص الناس بالنفس ذاته الذي عشت بها قصتي، وأن أعدّها كما قلت في بداية الحوار حيوية بالنسبة لي. لذا أنا أكتب من هذه المحبرة التي لن تجف قبل أن نفهم جميعا أن المستقبل هو المهم، بل الأهم، أن الماضي لا يمكن إلا أن يكون مرآة عاكسة تجنبنا تكرار الأخطاء التي اقترفناها سابقا حتى نستطيع أن نساهم في التأسيس لعالم يتسع لجميع أحلام الناس.

في كلمة واحدة، الأفكار التي تولدت لدي وحولتها إلى أعمال روائية، أو التي ستولد لدي في المستقبل أحولها إلى شكل تعبيري آخر، إن استطعت، هي ضرورية لأستمر في الحلم. حلم بناء المشترك الإنساني، وفي الحياة بمعناها الواسع. فأجمل ما في الكون هو أن تعرف كيف تحكي للناس قصصا عشتها ولو كانت أليمة وما زالت تنزف، ولتتمكن من ذلك يجب أن تمتلك شيئا من نفَس النساء.

ما القضايا والمواضيع التي تثيرها رواية “نفس الله”؟

“نفس الله”؛ هي أولا، رواية عن أحمد، مؤرخ تخصص في التاريخ الراهن، فقد ذاكرته منتصف العشرية الثالثة من حياته في ظروف غامضة، هرب من بلده وتاه ما بين باريس وأمستردام، وانتهى خبيرا حقوقيا، بعدما تخصص في أخلاقيات حقوق الإنسان، يساعد ضمن من يساعد في عمله الإنساني الحقوقي “الخوارج”.

و”الخوارج” في “نفس الله” مجموعة من المهاجرين تاهوا بين مقاهي وحانات العاصمة الهولندية أمستردام، وبالرغم من أن “الخوارج” غادروا أرض ذكرياتهم، إلا أنهم ظلوا سجناء التذكر على إيقاع “انعدام المعنى”، وكان من مهمة أحمد والمؤسسة التي يشتغل لفائدتها مساعدة هؤلاء لمعالجة أثر ذاكرتهم الفردية والجماعية على معيشهم اليومي في الغربة.

ثانيا، هي رواية عن النساء، ومنهن الأخوات الأربع لأحمد؛ اللواتي وقعن بعد رحيل والدهن، واستمرار غياب الأخ الوحيد أحمد، ضحايا جشع عمهن الذي طردهن من منزل العائلة إلى مرآب للأشغال الميكانيكية كان في ملكية والدهن.

ثالثا، هي رواية عن اللغة، والشكل، والمضمون في العمل الأدبي، لذلك نبهت الناس في مقدمتها إلى أن العمل يضُمّ فصولا مرقمة بالأرقام وأخرى بالحروف؛ فتلك المرقمة بالأرقام فصول في جوهر العمل الروائي؛ وتلك المرقمة بالحروف حوارات هامشية كانت بيني وبين “جلجل”، الكائن الهلامي الذي انبرى لي من منجد الطلاب العراقي الطبعة والأحمر غلافه، وأخبرني، ما إنْ حلّ بمكتبي، دون استئذان، أن مهمته تكمن في حماية اللغة العربية من هفواتي اللغوية ومني.

 انطلاقا مما قلته سابقا، هل أحداث الرواية واقعية أم خيالية؟

قلت في بداية الحوار أنني أنتمى إلى منطقة زادها الذاكرة والتذكر، وأنني اخترت، من موقعي فاعلا حقوقيا، ولأصبح روائيا كذلك، أن أضبط إيقاع التذكر على الإيقاع الأدبي-الحقوقي، ولأساهم كذلك في تخليص وتخلص الناس من سموم تذكر “لامعنى” الأليم، لذا يمكن أن أقول لك إن الرواية كاملة قضت من ذاكرتي. هل هي أحداث واقعية أم لا؟، هل حدثت تلك الأحداث التي رويتها أم لا؟ لا أعرف. كل ما أعرف هو أنني بصفتي روائيا عرفت كيف أكتب عن ألمنا، وأبتسم، وأضحك، وأنبه الناس إلى أن ذلك قد مضى وعلينا إبداع صيغ عدم تكراره.

أفكر في رواية مقبلة أقل ألما، وأكثر طموحا للمساهمة في أن يصبح الماضي الأليم طاقة للمستقبل، ولبناء عالم نستحقه. هل سأفرغ يومنا من الحكايات، ولن أصبح روائيا؟ لا، قد تنبض ذاكرتي، وذاكرة أهلي، لكن سأستمر روائيا لأنني أعتبر أن حكايات الناس لضبط ألمهم حيوية بالنسبة لي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News