رأي

قمة سان بترسبورغ.. ماذا تريد روسيا من إفريقيا؟

قمة سان بترسبورغ.. ماذا تريد روسيا من إفريقيا؟

انعقدت يومي 27 و28 من الشهر الجاري بسان بترسبورغ القمة الروسية الإفريقية الثانية في سياق دولي تسعى فيه روسيا إلى كسب مزيد من النفوذ في إفريقيا، والتي تسارع غالبية دولها إلى الخروج من مربع الهيمنة الغربية بعد فترة طويلة من الإمبريالية.

لكن، روسيا لا يمكن أن تقدم لإفريقيا أكثر مما تقوى عليه لأن إمكانياتها الاقتصادية ضعيفة نسبيا ولا تصل حتى إلى ثمن إمكانيات قوى دولية أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي أو الصين، ويكفي في هذا الصدد عرض بعض أرقام السنة الفارطة 2022، والتي تهم حجم المبادلات التجارية الروسية-الإفريقية التي تبلغ حوالي 14 مليار دولار مع العلم بأن 70% منها لا يهم سوى أربعة دول فقط هي مصر والمغرب وجنوب إفريقيا والجزائر.

وعلى سبيل المقارنة لا يمثل هذا الحجم سوى حوالي 5% من حجم المبادلات الصينية-الإفريقية التي تصل إلى أكثر من 250 مليار دولار. أما إذا نظرنا إلى الاستثمارات الروسية في إفريقيا فهي بالكاد تبلغ نسبة 1% من مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تستقبلها القارة السمراء، وهنا أيضا على سبيل المقارنة يستحوذ المغرب لوحده على حوالي 16% منها.

تعتمد الكثير من الدول الإفريقية ومنها مصر والجزائر ودول جنوب الصحراء على واردات الحبوب وخاصة القمح القادمة من روسيا في سبيل تحصيل أمنها الغذائي، وهو ما يضاعف من مخاطر الأزمات الغذائية النابعة في الأصل من عوامل متعددة منها ما يتصل بضعف استغلال وتثمين المساحات الصالحة للزراعة، علاوة على تخصيص المساحات الضئيلة المزروعة لمنتوجات موجهة للتصدير بعيدا عن تلبية الحاجيات الغذائية للشعوب الإفريقية المضطرة إلى استيراد الأرز والحبوب لضمان أمنها الغذائي.

يحيلنا هذا الارتهان إلى فقدان إفريقيا لسيادتها الغذائية، ويرتبط بشكل متزايد بعوامل جيوسياسية تعمق من هشاشة الوضع، ولا أدل على ذلك في المرحلة الراهنة من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات الحبوب،إذ بالرغم من التوصل إلى اتفاقيات أو بالأحرى تفاهمات مؤقتة بهدف تمكين الشحنات الغذائية من الوصول لموانئ البحر الأسود وعبورها نحو الطرق البحرية المؤدية للقارة الإفريقية، لكنها بالتأكيد تفاهمات هشة تخضع لتعقيدات الحسابات السياسية ومتغيرات ساحة المعارك. وهذا ما أثبتته الوقائع عندما تسببت الحرب الدائرة في الإضرار بالبنية التحتية للموانئ، وأيضا في الآونة الأخيرة لما أوقفت روسيا بشكل أحادي العمل بالاتفاق أسبوع فقط قبل انعقاد القمة.

لقد علق وزير الخارجية الكيني حينذاك واصفا الانسحاب بال”الطعنة في الذهر”، ومع انعقاد القمة أعلنت روسيا نيتها في تأمين استلام الدول الإفريقية لشحناتها من الحبوب، كما وعدت بمنح 5 دول إفريقيا إمدادات مجانية من القمح. لكن، بالقدر الذي أثار هذا الوضع الهش انزعاج بعض العواصم الإفريقية، بقدر ما تواصل روسيا في لعب ورقة الأمن الغذائي الإفريقي ومحو الديون الإفريقية وتسويق صورتها لدى الدول الإفريقية كحليف ضروري في عالم متعدد الأقطاب.

يطرح هذا السلوك الروسي المتذبذب علامة استفهام عريضة حول ما بات يُعرف ب”دبلوماسية الحبوب” التي تنهجها موسكو تجاه الدول الإفريقية. وقد لوحظ انسجام في مواقف الدول الإفريقية من خلال كلمات رؤساء الوفود الإفريقية التي عبرت عن مخاوفها من استمرار الحرب وحالة عدم اليقين بخصوص حصولها على الكميات الكافية من الحبوب والأسمدة الرزاعية، وكذلك بشأن شبح ارتقاع أسعارها في السوق العالمية.

وتحاول روسيا إبراز المكاسب التي بوسع الدول الإفريقية جنيها من خلال انخراطها في تحالف استراتيجي مع روسيا، وقد كانت القمة مناسبة بالنسبة لروسيا من أجل الكشف عن رسمها الاستراتيجي تجاه إفريقيا والقائم على عقيدة التصدي للنيوكولونيالية الغربية وتهاوي القيم الحضارية للعالم الأورو-أنغلو-أمريكي التي تهدد سيولتها البنى الاجتماعية للشعوب الإفريقية.
لكن، يبدو جليا في السنوات الأخيرة أن الزحف الروسي على الجبهة الإفريقية الداخلية يتسارع على الصعيد الأمني والجيوسياسي عن طريق مجموعة فاغنر المدعومة والمقربة من الكرملين، والتي توسع تدريجيا من تواجدها العسكري الفعلي في 14 دولة إفريقية تستعين بها حكوماتها في مواجهة تهديدات جماعات مسلحة داخلية أو عابرة للحدود.

وهكذا أصبح الدور العسكري الروسي بإفريقيا بالوكالة أحد أبرز المحددات الجيوسياسية للعلاقات الروسية مع عدد متزايد من الدول الإفريقية، وهو ما يشكل في أعين واشنطن والحكومات الأوروبية هاجسا حقيقيا ومصدرا دائما للقلق لكونه يهدد بشكل مباشر المصالح الاقتصادية الأوروبية وخاصة الفرنسية كما حصل بدولة مالي على سبيل المثال، ونظرا لكون الحفاظ على هذه المصالح يصطدم بالتواجد النشط لمقاتلي مجموعة فاغنر. فإذا كانت روسيا تعلم مسبقا أن الوعود التي تقطعها بشأن الرفع من نسق التبادلات التجارية والاستثمارات مع الشركاء الإفارقة تبقى صعبة التحقق نظرا لعوامل بنيوية مرتبطة بحجم الاقتصاد الروسي، غير أنها تحاول أن تقوي وتمدد تواجدها الأمني والعسكري ميدانيا من أجل محاصرة دوائر النفوذ الأوروبية والأمريكية.

ولكن، على الأمد المتوسط والبعيد، تعي موسكو أن المعركة الحقيقية ستدور على الحلبة الاقتصادية والمالية عندما يحث بوتين الدول الإفريقية على تبني عملاتها الوطنية في معاملاتها التجارية، ويعرض عليها توثيق التعاون من أجل وضع بنية تحتية بنكية مستقلة عن نظام السويفت SWIFT، فإن الهدف الاستراتيجي يكمن في إخراجها من التبعية للدولار وكل ما يعنيه ذلك على صعيد الاستقلالية الاستراتيجية لإفريقيا. و في هذا الإطار، ليست روسيا هي المعنية لوحدها، بل هو توجه محوري في مخطط دول البريكس يخدم مصالح الصين والهند في المقام الأول بالإضافة لقوى أخرى تسعى بشكل مكشوف أو مضمر إلى تأسيس اللبنة الأساسية في عالم متعدد الأقطاب، ويتعلق الأمر باللبنة النقدية والبنكية.

وبالرجوع لقمة سان بترسبورغ و قراءة في مستوى التمثيلية الإفريقية عموما والمغربية على وجه الخصوص، فإننا نسجل حضور 17 رئيس دولة إفريقية فقط في حين أن القمة الروسية الإفريقية السابقة والأولى من نوعها بسوتشي عام 2019 كانت قد عرفت حضور 43 من رؤساء الدول. وهذا ما يرجح فرضية نجاح الضغوط التي مارستها العواصم الغربية على الدول الإفريقية من أجل خفض مستوى تمثيليتها، وقد شارك المغرب في هذه القمة على مستوى رئيس الحكومة كما كان الحال خلال قمة 2019. وفي هذا الصدد، يتأكد هامش الاستقلالية لدى الجانب المغربي الذي بالرغم من قربه من واشنطن، فإنه حافظ على نفس درجة الحضور مقارنة مع القمة الروسية الإفريقية الأولى. وهذا ما يرسخ واقعية السياسة الخارجية المغربية ويبرز الأهمية الاستراتيجية التي يوليها المغرب لتنويع شراكاته الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News