وجهة نظر

عن الدولة والدين في التاريخ الإسلامي

عن الدولة والدين في التاريخ الإسلامي

اهتدت كتابات عدة منذ زمن بعيد إلى فصل المسألة السياسية عن الإسلام، بل ذهبت إلى حد بعيد اعتبرت فيه الإسلام مجرد دعوة، لا صلة له بالسياسة، لم يُقم دولة ولم تكن فيه سياسة، فصحيح أن القرآن لم يتضمن تشريعا سياسيا، ومع ذلك هل منع هذا الغياب من أن تقوم الدولة في الإسلام.

إن الدين في هذه المسألة ليس هو النص فقط، وإنما كيف فهِمه المسلمون، أي كيف أنزلوه منزلة الواقع في الممارسة السياسية، بعبارة أخرى كيف ترجم المسلمون الدين إلى فعل ممأسس سمح بقيام دولة توسلت شرعيتها باسم الدين باعتباره رسالة دينية ومشروع سياسي في آن واحد.

إنه لمن الإجحاف تجريد المسألة السياسية من الإسلام، فالرسول منذ بعثته وطيلة تواجده بالمدينة لم يكن فقط قائدا روحيا ودينيا فقط، وإنما مضى نحو تأسيس تجربة سياسية تجسدت في حالة الوحدة التي حصلت بالمدينة، وبروز مفهوم جديد لم يألفه العرب من قبل وهو مفهوم “الأمة الإسلامية”، ثم إتيانه على ممارسة وظائف من قبيل الفصل في المنازعات وقيادة الجيوش وعقد اللواءات وتعيين العمال والقضاة وإرساء السفراء، لذلك فالدولة في الإسلام تأسست على مقتضى تاريخي وسياسي صنعته ضرورة تكوين جماعة إسلامية فرضت نفسها على المسلمين بقوة .

“ففي كل الأحوال، أتى الإسلام المدني يرهص بتحويل الجماعة المكّية -التي تكون وجدانها الاعتقادي في الإسلام المكي، ابتداءً وتعمّق في تجربة الهجرة إلى المدينة -إلى جماعة سياسية، أي جماعة تعيد تأسيس الاجتماع الديني للمسلمين في صورة اجتماعي سياسي بات، هو نفسه، ممرّا إجباريا للاجتماع الديني كي يعيد إنتاج نفسه وكي يتوسع: في المجال الحجازي ابتداء، ثم خارج هذا المجال في مرحلة لاحقة”[1]، إذ أضحى معه دين الإسلام لا يستقيم إلا باعتباره مسألة إيمانية ومشروع سياسي كمتلازمين غير قابلين للانفكاك.

على أن السلطان السياسي في مرحلة النبوة وإن كان في حاجة إلى عُدّة السياسة حتى يزداد انتشاراً وسيادة، فإن خلافة النبي زادت من حدّة هذا الطلب، “فالصحابة عالجوا مسألة خلافة النبي معالجة سياسية محضة” على حد قول  عابد الجابري، بل إن هذا الأخير يذهب إلى اعتبار “أن السياسة وليس الدين هي التي كانت ميدانا للنقاش والخلاف، وفي إطارها وقع الحسم واتخاذ القرار”، لسبب يتوسع عبد الإله بلقزيز في تفسيره مبناه” أن خلافة النبي ما طرحت سؤلا دينيا. ولا كان من الممكن أن تأخذ شكلا دينيا لعلم المسلمين سلفا أن نبوة رسولهم اختتمت الرسالات وأنهت القادة الدينية بالمعنى الدقيق للكلمة، لقد كان سؤالا عمّن سيخلف الرسول في الإدارة السياسية لشؤون المسلمين”[2].

ومهما كانت الجهة التي أستند عليها في هذه القراءة والزاوية التي أحاول أن أعالج بها الموضوع، فإنني أذهب إلى اعتبار الدولة كظاهرة تاريخية عند المسلمين تأسست في ضحى الإسلام حتى وإن لم يكن النص قد أقر بذلك، فالنبي والمسلمون أسسوا دولة وانتظموا في كيانها كجماعة إسلامية موحدة، وأي شيء آخر يمكن أن يقال على الدولة أنها ليست سوى المجتمع منظما.

فإذا كان الفراغ التشريعي في سؤال السلطة لم يقدم إطارا وقواعد يمكن الامتثال إليها ويحدد وظائفها، فإن محاولة إنتاج نظام للحكم في الإسلام على الأقل ساهم في إقرار اجتهاده في المسألة تلك، ” وولّد مفهومين للنظام ذاك: مفهوم توفيقي هو ما أقرب ما يكون معنى الآيتين الصريح ومقتضاه أن الجماعة الإسلامية هي من يؤول إليها أمر التوافق على نظام الحكم الذي سيقوم فيها وهو مفهوم اعتنى كثيرا بمسألة الاجماع على قاعدة فكرة (عصمة الأمة) التي ما اجتمعت على ضلالة كما ورد في حديث نبوي. ومفهوم توقيفي يقرّر قاعدة مقتضاها أن الامة محكومة شأنها شأن نظام الحكم فيها بالشريعة، وأنه ليس يجوز لها وضع أمر قررته الشريعة سلفا”[3].

وهو الأمر الذي مافتئ يذكرنا به صاحب العقل العربي، إذ يقول:” وإذا نحن نظرنا إلى جميع النظريات والآراء التي أدلى بها المتكلمون والفقهاء في موضوع الإمامة من منظور العلاقة بين الدين والدولة، أمكن حصرها في مواقف ثلاثة : الموقف الأول: يرى أصحابه أن الإمامة، أي تنصيب الإمام، وبالتالي إقامة الدولة في المجتمع الإسلامي فرض من فروض الدين وركن من أركانه، أما الموقف الثاني فهو مناقض تماما للأول يرى أصحابه أن الإمامة و(الدولة) ليست بواجبة، بمعنى أن الدين لا ينص على وجوب إقامتها، ولا على وجوب تركها، بل ترك أمرها للمسلمين، فإن هم استطاعوا نصب إمام عادل من دون إراقة الدماء، ومن دون حروب وفتن، فذلك أفضل، وإن هم لم يفعلوا ذلك، وتكفل كل واحد منهم بنفسه وأهله، وطبق أحكام الشريعة كما هي منصوص عليها في الكتاب والسنة جاز ذلك وسقطت عنهم الحتجة إلى إمام..، بينما يذهب الموقف الثالث إلى الرد على الموقفين السابقين، وهو موقف عموم أهل السنة وأكثرية المعتزلة والخوارج والمرجئة، ويجمعهم جميعا بأن الإمامة واجبة من جهة، وإنها تكون بالاختيار لا بالنص من جهة أخرى”[4].

وكما اقترن الدين بالدولة في التجربة الإسلامية، ارتبطت السياسة أيضا بالدين في تجربة ابتدئت مع النبي، وخاض غمارها الصحابة في تجربة سياسية في عصر الخلافة من منطلقات معرفية انبنت على الأثر والاجتهاد، وحتى، وإن زعمت بعض القراءات[5] أن التجربة الإسلامية لم تعرف السياسة ولا الدولة لأن أسس الإسلام في السياسة انبنت على الأخلاق، والدولة حسب هؤلاء لا يمكن أن تقام على مداميك أخلاقية مستندة على تفسير يقارن ويقيس على فشل نظرية هيغل الخاصة بالدولة. والقراءة هاته يصعب مسايرتها؛ كونها تتوسل إلى تحليل الدولة في التجربة الإسلامية بناء على نظريات تنتمي إلى جهاز مفاهيمي مختلف .

وأي تكن الآراء التي سقناها أعلاه فإن ما نخلص إليه في ظل التجربة الإسلامية:

–       أن المسلمين أسسوا دولة بناء على تجربة شكل فيها الدين عاملا أساسيا لتوحيد وتلحيم أعضاء الجماعة الإسلامية فكان عنصرا فاعلا ومساعدا في قيام تلك الدولة؛

–       غياب تشريع سياسي قرآني لسؤال السلطة في الإسلام سمح بميلاد اجتهادات تبلورت بعد وفاة النبي وشهدت تطورا أفضى إلى بروز فكر سياسي إسلامي ونظريات في السلطة “نظرية الخلافة” و “نظرية الإمامة”؛

–       حصول اشتباك بين الديني والسياسي والدولة في التجربة الإسلامية إلى حدّ تفاقمت معه الإشكالات والجدليات، توسعت لدرجة تعسّر في ظلها فك الالتباس الحاصل بينهما.

– باحث في الأداء السياسي والدستوري

مراجع:

[1]- عبد الإله بلقزيز، تكوين المجال السياسي الإسلامي النبوّة والسياسة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1  2005، ص 41.
[2] – عبد الإله بلقزيز، نفس المرجع، ص 44.

[4] – محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، أنظر ص 24 وما يليها.
[5] – نقصد هنا القراءة التي قدمها وائل حلاق، أنظر كتابه الدولة المستحيلة.. الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات،ط1 ، 2014.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News