رأي

حزب العدالة والتنمية التركي في مواجهة أكبر تحدي انتخابي في تاريخه

حزب العدالة والتنمية التركي في مواجهة أكبر تحدي انتخابي في تاريخه

بعد التحدي الذي مثله وصوله إلى السلطة في مستهل الألفية الثالثة، يبدو أن حزب العدالة والتنمية، وزعميه رجب طيب أردوغان، يواجه خلال الانتخابات العامة التي ستعرفها تركيا في 14 ماي الجاري أكبر تحدي انتخابي على الإطلاق في تاريخه. فمنذ 2002، السنة التي تربع فيها على عرش السلطة في تركيا، لم يسبق أن كان “الحزب الإسلامي” في وضعية انتخابية صعبة مثل تلك التي يواجهها خلال الانتخابات الحالية. وهذه هي بعض الأسباب التي تفسر ذلك:

أولاـ أن مقام الحزب في السلطة طال بشكل كبير. فهو يحكم تركيا بدون انقطاع منذ ما يزيد عن 20 عاما، وتولى مؤسسه رئاسة الحكومة لثلاث ولايات متتالية، قبل أن يقود البلاد كرئيس للدولة لولايتين متتاليتين (2014/2018، 2018/2023). وكثيرا ما تتعرض القوى السياسية التي تستمر في السلطة لمدة طويلة، حتى ولو كان ذلك بإرادة الشعب المعبر عنها من خلال انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية، للإنهاك الذاتي، وتكون في حاجة إلى أخذ نفس جديد من أكسجين المعارضة. وهناك قاعدة غير مكتوبة في السياسة تقول إن السلطة تأكل السلطة.

ثانياـ أن الحزب تعرض في السنوات الأخيرة لهزات داخلية، سواء في علاقته ببعض قادته أو في علاقته بأحد أهم حلفائه التقليديين. فقد ابتعدت عنه قيادات وازنة كان إسهامها بارزا في صنع مجده السياسي والانتخابي خلال العشريتين الأولى والثانية من القرن العشرين، على خلفية معارضتهم قرار الانتقال إلى النظام الرئاسي. وفي مقدمة هؤلاء أول رئيس لتركيا باسم حزب العدالة والتنمية، عبد الله غول (2007ـ 2014)، وآخر رئيس للوزراء باسم نفس الحزب، أحمد داوود أغلو. فضلا عن ذلك، فقد انفكت عرى الروابط التي كانت تجمعه بفتح الله غولن وحركة “الخدمة”، التي ظلت إلى حدود 2015 تشكل خزانا انتخابيا قويا بالنسبة له، قبل أن يعمل أردوغان على مطاردة أعضائها وتفكيك شبكة نفوذها المالي والسياسي والإداري والإعلامي في سياق اتهامها بالوقوف وراء الانقلاب العسكري لسنة 2016 الذي قال إنه كان يستهدفه وحزبه. بل إن هذه الهزات لم يسلم منها أيضا حليفه الرئيسي في الوقت الراهن، أي الحركة القومية، عندما انشق عنها “حزب الجيد”، بزعامة ميرال أكشنار، الذي يعد الآن من أبرز مكونات تحالف “الطاولة السداسية”.

ثالثاـ أن هذا الاستحقاق يأتي في سياق تعرض فيه الحزب خلال آخر انتخابات بلدية لهزائم بينة في المدن الرئيسية في البلاد. فقد خسر، ولأول مرة منذ 17 سنة، نتائج العاصمة أنقرة، ومدينة إستانبول، ذات البعد الرمزي بالنسبة لرجب طيب أردوغان، لأن منها بدأ مشواره الانتخابي كعمدة لها (1994ـ1998)، قبل أن يصبح رئيسا للحكومة انطلاقا من سنة 2003. فضلا عن ذلك، فقد ظهر واضحا خلال الانتخابات التشريعية المتتالية أن الحزب، الذي تمكن في أول انتخابات تشريعية يخوضها من الفوز بثلثي الجمعية الوطنية الكبرى (363/ 550)، وإن حافظ على حضور انتخابي متميز إلى حدود الانتخابات التشريعية لسنة 2018 (295/ 600)، فإنه لم يعد يحقق الأغلبية داخل البرلمان. وقد ظهر ذلك واضحا بصفة خاصة خلال انتخابات يونيو 2015 (258/ 550)، التي لم تكن نتائجها كافية بالنسبة إليه لكي يشكل الحكومة. ولم يتسنى له ذلك إلا بعد تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، جعلت الناخبين الأتراك أمام خيارين: تمديد عمر الأزمة السياسية أم تمديد عمر حزب العدالة والتنمية في السلطة.

رابعاـ أن الحزب يواجه خلال هذه الانتخابات معارضة نشطة، استطاعت، وعلى خلاف ما كان يحدث في الماضي، أن تتغلب ـ ولو جزئيا ـ على خلافاتها، وأن تلملم شتاتها في إطار ما يعرف بتحالف “الطاولة السداسية”، لتفرض على البلاد حالة استقطاب سياسي وانتخابي حاد بين “تحالف الشعب”، الذي يشكله حزب العدالة والتنمية بمعية حزب “الحركة القومية” وحزب “الاتحاد الكبير” وحزب “الرفاه الجديد”، وحزب “تحالف الأمة”، الذي يقوده حزب “الشعب الجمهوري”. فلأول مرة على مدى العشرين سنة المنصرمة تتفق أحزاب المعارضة الرئيسية، وضمنها أحزاب أسسها قادة سابقون بحزب العدالة والتنمية، نظير “حزب المستقبل” بزعامة أحمد داوود أوغلو، وحزب “الديمقراطية والتقدم” برئاسة علي باباجان، على مرشح مشترك خلال الانتخابات الرئاسية في شخص كمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، وعلى تقديم لائحتين انتخابيتين فقط من أجل خوض الانتخابات التشريعية التي ستجري في نفس اليوم. وتبدو أهمية هذا التحالف، الذي يعد أكبر تكتل معارض في تاريخ تركيا، بشكل أوضح عندما نأخذ بعين الاعتبار كون مرشحه للاستحقاق الرئاسي يحظى بتأييد حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعد ثالث قوة انتخابية وسياسية في البلاد بعدما تمكن خلال انتخابات 2018 التشريعية من الحصول على 11.7% من أصوات الناخبين.

خامساـ أن الانتخابات التركية تجري في ظل مناخ إقليمي تراجع فيه نفوذ القوى والحركات الإسلامية. فبعد أن كانت المستفيدة الأولى من ثمار ما عرف بالربيع العربي، الذي سمح لها بأن تقود السلطة أو على الأقل أن تكون شريكا فيها في عدد من الدول العربية، وخاصة في كل من تونس ومصر والمغرب، لم تفلح في أن تحتفظ بهذا الموقع في أي بلد من البلدان المذكورة. من دون شك أن ما وقع في بعض البلدان العربية لا يمكن إسقاطه بهذه البساطة على الحالة التركية، التي تبقى حالة خاصة جدا، سيما وأن الحزب الذي يمثل عنوانا لها استطاع أن يرسم لنفسه مسارا مختلفا عن مسارات باقي القوى الإسلامية الأخرى. لكن مع ذلك قد لا يكون انطفاء جدوة “الصحوة الإسلامية” بدون تأثير على القوى الإسلامية في مجملها، وضمنها حزب العدالة والتنمية التركي، سيما عندما يكون هذا الحزب كثيرا ما يتمثل كمرجع لها أو على الأصح نموذجها الناجح.

سادساـ أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية التي يخوض في ظلها الحزب الانتخابات الحالية هي نفسها تقريبا الوضعية التي خاض فيها أول انتخابات تشريعية يفوز بها. فقد وصل إلى السلطة والبلاد تعاني من أزمة اقتصادية حادة، وتعيش على إيقاع تداعيات زلزال 1999 المدمر، الذي قتل حوالي 17 ألف شخص وخلف وراءه حوالي نصف مليون شخصا بلا مأوى. وها هو يخوض الانتخابات الحالية والبلاد تعرف مشاكل اقتصادية حادة، كما تعاني من مخلفات زلزال آخر أودى بحياة أزيد من خمسين ألف شخصا. والفارق بين الوضعيتين هو أن الحزب استفاد من الأولى لأنه كان وقتها يتحرك من موقع المعارضة، بينما قد يكتوي بنار الثانية لأنه يوجد اليوم في موقع السلطة. وبالتالي فإذا كان زلزال 1999 قد أطاح بحزب الشعب الجمهوري لمصلحة حزب العدالة والتنمية، فإن زلزال 2023 قد يعيد السلطة لحزب الشعب الجمهوري على حساب العدالة والتنمية.

سابعا، وأخيرا، الرغبة المعلنة من طرف عدد من القوى الغربية في أن يزاح حزب العدالة والتنمية، وبالتحديد زعيمه رجب طيب أردوغان، من على رأس السلطة في هذا البلد الإسلامي. وهي تلعب ورقتين من أجل تحفيز الناخبين الأتراك على أن يتجهوا نحو المعارضة: ورقة تخويفهم من ما تسميه النزوع السلطوي للرئيس التركي، والتهديد الذي يمثله بالنسبة للديمقراطية، حيث لم تتردد صحيفة كبيرة مثل “واشنطن بوست” الأمريكية في الحديث عن “شبح الاستبداد الذي يخيم على الانتخابات التركية إن فاز رجب طيب أردوغان بولاية جديدة”، كما لم تتردد صحيفة أخرى لا تقل عراقة مثل “دي إيكونيميست” البريطانية في القول “إن على أردوغان أن يرحل، وأن على الأتراك التصويت لإنقاذ الديمقراطية”. بل إن دير شبيغل الألمانية ذهبت أبعد من ذلك عندما اختارت أن تضع في غلافها صورة مركبة للرئيس التركي وهو يجلس على كرسي وخلفه يظهر الهلال العثماني ورمز الدولة التركية مكسورا. ثم ورقة إعادة الاندماج في الغرب، حيث تربط الدول الغربية ابتعاد تركيا عن الاتحاد الأوربي وحلف الناتو، ولعبها على الحبلين الروسي والأوكراني خلال الحرب الجارية حاليا، إلى النزوع القومي للرئيس التركي، وبالتالي فإن التخلص منه يعني فتح صفحة جديدة في علاقة الغرب بهذا البلد.

هذه إذن بعض العوامل التي يمكن الدفع بها من أجل تفسير كيف أن المعارضة التركية توجد أمام فرصة غير مسبوقة من أجل إزاحة حزب العدالة والتنمية من السلطة. لكن ذلك لا يعني أن “الحزب الإسلامي” يتجه نحو خسارة مؤكدة. فالحزب له من الأوراق التي قد تسمح ببقائه في السلطة لولاية جديدة، إن لم تكن كل السلطة ـ الرئاسة والبرلمان ـ فعلى الأقل جانب منها، إذ قد يفقد رئاسة الجمهورية ويربح الأغلبية بالبرلمان، وقد يتمكن من إعادة انتخاب زعيمه لولاية رئاسية ثالثة ويخسر الأغلبية في البرلمان.

يتسلح حزب العدالة التنمية بقدرته على الصمود في مواجهة الإعصار، حيث راكم خبرة سياسية كبيرة في التكيف مع هكذا أوضاع، واستطاع أن يتحدى العديد من العقبات التي واجهته خلال مسيرته، خاصة عندما نجح في تفكيك الطوق الذي ظلت تفرضه عليه “الدولة العميقة” في تركيا، ممثلة في المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية، التي كانت في أكثر من مرة قاب قوسين أو أدنى من حله.

ويتسلح أيضا برصيد سياسي واقتصادي مهم، إذ في ظل حكمه أصبحت البلاد في وضعية أكثر استقرارا من الناحية السياسية. وحققت طفرة اقتصادية كبيرة جعلت العديد من الأتراك مدينون له بالخروج من أوضاع الفقر التي كانوا يعيشونها.

ثم أن خوضه للانتخابات من موقع الحكم يسمح له بأن يكون في وضع امتيازي مقارنة بمنافسيه، خاصة وأن هذا الموقع يمنحه الإمكانية للتحكم بشكل كبير في وسائل الإعلام العمومي، التي لا يمكن إنكار أهميتها في التأثير في العملية الانتخابية، كما قد يسمح له باستثمار إمكانيات الدولة الرمزية واللوجستية في حملته الانتخابية.

علاوة على ذلك، فإن حزب العدالة والتنمية يمكنه أن يستفيد من بعض ثغرات المعارضة، التي يضعفها ترشح محرم إينجة باسم تنظيمه الجديد (حزب البلد) بعدما كان مرشحا باسم حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية لسنة 2018. ويضعفها أيضا أن تكوينها من ستة أحزاب متباينة في التوجهات والمرجعيات قد يجعل الشعب يتخوف من أن يكون التصويت لفائدتها مقدمة لصراعات لا تنتهي بينها حول توزيع السلطة، سيما وأنها لم تهتد إلى تحالف “الطاولة السداسية” إلا بعد مفاوضات صعبة وشاقة.

كما يمكن للحزب أن يحول أسلحة المعارضة ضده إلى “سم” قاتل لها. يمكنه أن يجعل من النزوع القومي الذي يتهم به زعيمه إمكانية تسمح له بالظهور كبطل قومي في أعين الأتراك، إن لم يكن جميعهم فعلى الأقل أغلبيتهم. كما يمكنه أن يسوق رهان خصومه على الأكراد، وحزب الشعوب الديمقراطي بالذات، على أنه استعانة بالإرهاب، حيث تتهمه القيادة السياسية التركية بأنه على صلة مباشرة بحزب العمال الكردستاني المحظور.

 

-أستاذ علم السياسة (جامعة محمد الخامس بالرباط)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News