رأي

التربية الدامجة: بين الخطاب وإكراهات التنزيل

التربية الدامجة: بين الخطاب وإكراهات التنزيل

لم يكن يشغل اهتمامي حقيقة هذا الموضوع من قبل إلا حين جمعتني جلسة مع أم لطفلة تعاني من إعاقة بمكتب مسؤول عن برنامج التربية الدامجة.. عرفت خلالها أشياء كثيرة وتفاصيل عديدة عن حجم الإكراهات المطروحة أمام إدماج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وخاصة منهم ذوو الإعاقة الذهنية في أسلاك التعليم المدرسي وعن الهوة القائمة بين منطوق القرارات والمذكرات الوزارية في هذا الشأن وبين الواقع المرير الذي سردت أمامي وقائع وحكايات منها ما التقطته وعاشته هذه السيدة بعين الأم المكلومة وعقل الشابة المنصتة الواعية المدركة لحقيقة هذا النوع من الخلل الوظيفي الذي يصيب الأطفال وما يتوجب عليها فعله لمواكبة دقيقة لحالة ابنتها وتنشئتها تنشئة سليمة.

هي معاناة كنت أدركها.. لكني لم أكن أعلم تفاصيلها المؤلمة التي تبدأ عند فئة كبيرة من الأطفال منذ الولادة واكتشاف الإعاقة مرورا بالبحث عن قنوات المساعدة الاجتماعية والطبية والنفسية و ضعف بنيات الاستقبال المناسبة لحالاتها وأنواعها، وغياب التكوين المتخصص الذي يواكب هذه الفئة مواكبة تربوية وعلمية تحقق لها الإدماج اللازم المرغوب وتحميها من الهدر وتضمن لها تعليما يستجيب لخصوصيتها وحاجياتها، هذا إضافة إلى انعدام المواكبة الطبية وشبه الطبية اللازمة بسبب انتماء معظم هؤلاء الأطفال إلى طبقة اجتماعية تعاني الهشاشة الاجتماعية التي يتعذر معها أيضا توفير الإمكانيات المادية لإيجاد مساعدين يواكبونهم داخل المؤسسات التعليمية.

وبقدر ما كان حجم المعاناة كبيرا وقاسيا على أسر هذه الفئة خاصة منها من ينتمي إلى الفئات الاجتماعية الفقيرة بقدر ما كان لدى بعض النساء حافزا قويا حوَّل هذه المعاناة إلى خدمة اجتماعية ونفسية لمن كتب عليه أن يقاسي نفس المعاناة وتقديم الدعم والسند له.. لقد أثارني فعلا ، وأنا أتابع إعادة برنامج تلفزيوني على إحدى القنوات التلفزية الوطنية، صلابة أمهات وقوة إرادتهن وهن يواجهن معاناتهن مع إعاقة أبنائهن ويحولنها إلى طاقة إيجابية اتجهت إلى خدمة هذه الفئة وأسرها إذ التجأت بعضهن إلى الدراسة والتخصص في مجالات الإعاقة وتأسيس مراكز وجمعيات لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة وتقديم العون والسند لأهاليهم، و صارت تلعب دورا هاما في الترافع لأجل هذه الفئة والمساهمة في تفعيل التربية الدامجة وتنزيلها في المؤسسات التعليمية.

فماهي التربية الدامجة؟ وما هي الإكراهات التي تحول دون التنزيل الفعال لها؟

التربية الدامجة هي مقاربة تربوية تتمثل أهميتها في توفير الشروط الممكنة لتحقيق تعلم فعال وملائم لفئة من الأطفال في وضعيات خاصة وفق مناهج وطرق مكيفة ومتطورة يستجيب لخصوصياتها وحاجياتها. وقد نص القرار الوزاري رقم 047.19 الصادر بتاريخ 24 يونيو 2019 بشأن تفعيل التربية الدامجة للتلميذات والتلاميذ في وضعية إعاقة في مادته الأولى على أن التربية الدامجة ” تهدف إلى تمكين كافة الأطفال من ذوي الإعاقة من الالتحاق بمؤسسات التربية والتعليم التي يرتادها أقرانهم والتعلم ضمن البيئة المدرسية التي توفر لهم شروط النجاح من خلال تكييف التعلمات وطرائق وتقنيات العمل والمراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية مع قدراتهم وخصوصيات كل صنف من أصناف الإعاقة، فضلا عن توفير التأهيل المواكب في فضاءات متخصصة يرتادها المتعلم حسب برمجة زمنية وفق مشروعه البيداغوجي الفردي”.

فالتربية الدامجة من هذا المنطلق تراهن على إدماج هذه الفئة وضمان الحق في جودة التعلم لها إسوة بغيرهم من التلاميذ، وتبقى الحلقة الأساس في نجاعة هذه المقاربة هي جودة الوساطة التربوية والاجتماعية فهي جسر أساسي لإنجاح العملية التربوية في هذا الشأن وتحقيق أهدافها. فلا بد، إذن، من مدرسين ومربين متمكنين من التربية الدامجة ومن المرجعيات التي تتأسس عليها وبيداغوجيا الممارسة التربوية الملائمة لها، ولا بد أيضا من توفير مساعدين للحياة المدرسية اجتماعيين ونفسيين وأطقم طبية وشبه طبية ومن تأهيل لبنيات الاستقبال الخاصة وتجهيزها بالحاجيات والوسائل اللازمة للإدماج، كما لا بد من الإشارة إلى ضرورة  تقوية دور منظمات المجتمع المدني والجمعيات العاملة في مجال الإعاقة في التحسيس وتوعية الأسر والمساهمة في تأطيرها وتكوينها تكوينا يمكنها من اكتساب الكفاءة والمهارات اللازمة والضرورية للانخراط الإيجابي والفعال في تفعيل التربية الدامجة، وكذلك العمل على تصحيح التمثلات الاجتماعية عن الإعاقة التي تمثل إحدى إكراهات التنزيل الفعلي لمشروع التربية الدامجة وإنجاحه، وذلك عبر مختلف الوسائل الممكنة تربويا واجتماعيا وإعلاميا بهدف إرساء وعي جديد بحقوق هذه الفئة في حياة كريمة عبر تنشئة اجتماعية سليمة، وتصور متحرر من تلك المقاربة الإحسانية التي طبعت هذا الموضوع.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة في هذا الصدد من أجل بناء أرضية لتنزيل مشروع التربية الدامجة إلا أن هناك إكراهات متعددة تحول دون ذلك تتطلب إرادة حقيقية وانخراطا واسعا لكل القطاعات المعنية ذات الصلة بالموضوع لإدماج فعلي وفاعل ضمن إصلاح تربوي شامل وذلك في إطار مشروع مجتمعي يتأسس على قاعدة صون الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان بكل أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

 

-أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي ومهتم بقضايا التربية والتكوين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News