رأي

تصدع النماذج الثقافية المنغلقة: أي دور ثقافي لتركيا؟

تصدع النماذج الثقافية المنغلقة: أي دور ثقافي لتركيا؟

يعرف الشرق الأوسط تصدعات على مستوى النموذج الثقافي المنغلق في جهتين، ظلتا متناقضتين من الناحية السياسية والمذهبية، في إيران والسعودية.
أما إيران فإن ما يجري فيها ليس احتجاجا على النظام السياسي فحسب، بل على النظام الثقافي الذي يدبر الرؤية الاجتماعية والقيمية. والعنوان الأساسي للأحداث الأخيرة هو التغير في الذهنية الاجتماعية للإيرانيين، الذين باتوا يتطلعون نحو مزيد من الانفتاح والتحرر من القيود، التي فرضتها أيديولوجيا الثورة.
في الطرف المقابل في السعودية تنمو موجة انفتاح سريعة، لكن مع الفارق بين الحالتين، في إيران تواجه حالة الانفتاح، في حين تدعم السعودية الانفتاح، الذي تعتبره جزءا من رؤيتها الثقافية للمستقبل. وبذلك يتم إسدال الستار عن رؤية ثقافية وقيمية عمرها أكثر من قرنين بالسعودية، باعتبار الوهابية آخر حالة أيديولوجيا وثقافة سنية، ذات صبغة توسعية في المنطقة. وقبل ذلك سقطت العواصم الثقافية العربية الأساسية، التي كانت تمثل مركز جذب ثقافي من القاهرة إلى بغداد ودمشق.

تركيا: الطرف الثالث

إنني لا أقر هنا بامتلاك تركيا نموذجا ثقافيا ممتدا في المنطقة، لكن تركيا تبدو طرفا ثالثا، في سياق يمر فيه كلا النموذجين الثقافيين السعودي والإيراني بتغيرات كبيرة.
وفي الوقت ذاته لا يوجد نموذج ثقافي عربي جذاب وفاعل، بسبب ما قامت به السياسة من تأزيم لمجالات إنتاج الأفكار وحصار الثقافة في أضيق الأماكن. حيث باتت الثقافة تتغذى على فتات وبقايا الميزانيات التي يتم تخصيصها لتدبير الشأن العام.
الثقافة بهذا الاعتبار شأن خاص جدا، وليست شأنا عاما يخص الجميع حسب تصور السياسيين لها. حيث يتم علمنة الثقافة وفصلها عن الدولة والمجتمع. لا توجد رؤية ثقافية، لأن التخطيط للثقافة أصبح من وظائف رجل السياسة حصرا، وهذا وحده كفيل بموتها.
لا يوجد على رأس الثقافة الإسلامية الآن أي قوة أو مركز سني، غير أنه علينا الاعتراف بأن الأتراك قادوا دار الإسلام إلى حدود ما قبل قرن من الزمن.
إن لدى تركيا الكثير مما تقدمه للمنطقة في ظل حالة الانحباس الثقافي، خاصة ما يتعلق بالثقافة السياسية والديمقراطية الإسلامية، التي مرت بظروف بالغة التعقيد حتى تصل إلى وضعها الحالي. إن مجرد الإيمان بإمكان قيام ديمقراطية إسلامية، يعتبر مهما للثقافة السياسية في المنطقة.
لا يمكننا مقارنة تركيا السبعينيات مع تركيا الآن، فهناك فارق كبير. علينا ملاحظة أن القليل جدا من كان يفكر في الذهاب للسياحة أو الدراسة من المنطقة العربية إلى هناك.
ولم تكن الأنظمة تهتم بربط العلاقات العسكرية والاقتصادية معها. إن تحول تركيا في الوقت الحالي إلى منطقة جذب للكثير من المكونات العربية والإسلامية، معطى لابد من أخذه بعين الاعتبار. وحتى التاريخ العثماني لم يكن الكثيرون يهتمون به في المنطقة مقارنة بما عليه الوضع الآن.
كل هذه المعطيات تدفع بالضرورة إلى القول بوجود مركز جذب متزايد نحو تلك المنطقة، وهو ما ينبغي تحوله إلى رؤية ثقافية مشتركة. لكن التناقض ونقطة الضعف تكمن في أن الأتراك حتى اللحظة، لا يقابلون الحركية التي تتجه نحوهم بحركية مماثلة. فالأتراك كسالى في هذا الأمر، وهم لا يشبهون للأسف الحجاج والزوار الإيرانيين، الذين يتنقلون حاملين مذهبهم الشيعي أينما ارتحلوا.
إنها دعوة للأتراك أن يحجوا ويزوروا المنطقة العربية، بنفس القدر الذي يستقبلون به. إن الثقافة تنتقل بالسفر والرحلة، وعلى المثقفين الأتراك أن يعلنوا عن أنفسهم، ويكونوا أكثر حضورا وفاعلية في المنطقة.
لقد أثبت الأتراك أنهم قادرون من حيث الإنتاج الإعلامي التاريخي على تحقيق أكبر قدر من الانتشار والتأثير في المنطقة. وهذا معطى بالغ الفاعلية لو تعلق الأمر بإنجازات مماثلة تعكس العلاقات والروابط المشتركة بينهم وبين مكونات المنطقة العربية.
إن الفراغ الأيديولوجي السني الآن يسمح بنشوء فكرة سنية كبرى (فوق قومية). ويشجع على أمر بالغ الأهمية، وهو تحول إسطنبول إلى عاصمة للثقافة، ومركز جذب ثقافي في المنطقة.
إذا لم يقرر الأتراك بناء أيديولوجيا في المنطقة، أو لم يكن باستطاعتهم فعل ذلك، فبإمكانهم على أقل تقدير أن يوفروا متسعا ومجالا يسمح بتطور ثقافي إسلامي.
التاريخ يشهد بنجاحهم في هذا الأمر منذ السلاجقة حتى العثمانيين. إن تطور المشترك الثقافي الإسلامي في حاجة إلى منصة وفضاء يستوعب هذه العملية. ذلك أن العالم العربي والإسلامي لا يمتلك حاليا منصة للفعل الثقافي، تحظى برعاية وغطاء سياسي.
حركة الترجمة من العربية إلى التركية والعكس، في مستوى متدن جدا. وهناك حاجة إلى اهتمام تركيا باللغة العربية كعامل جذب للمنطقة وصناعة المشترك الثقافي، يسحب المجتمعات نحو مدارها. إن الأتراك بسبب قلة اهتمامهم بالأفكار، بإمكانهم تتريك أجزاء من الثقافة العربية. تركيا التي تجد صعوبة في أن تكون مركز تصدير للثقافة والأيديولوجيا، بإمكانها أن تكون مركز استيعاب لها، وإعادة توزيع مخرجاتها مرة أخرى.
بإمكان تركيا على المدى البعيد أن تصبح «مركز العقل المسلم»، والقيام بعملية تدوير للأفكار. وهو نفسه ما يضخم موقعها الجيواستراتيجي. إن دولة المماليك لم تكن تنتج الثقافة بحسب طبيعة تكوينها العسكري، لكنها كانت قد حولت مصر إلى مركز للاستيعاب الثقافي وإعادة التصدير، بعد سقوط مركزي بغداد والأندلس.

مشترك ثقافي

إن بناء ثقافة مشتركة في المنطقة يفرض تجاوز تعقيدات العلاقات السابقة للعثمانيين مع العرب من كلا الجانبين. وبالتأكيد فإن سياسة صفر مشاكل التي نادى بها داوود أوغلو تصلح في إدارة العلاقات الثقافية مع الخارج، بشكل أفضل مما تصلح فيه من الناحية السياسية. على تركيا حقيقة أن تعود إلى قيادة الجماعة السنية الكبيرة. إن النزعة القومية التركية أو تلك النزعة القومية العربية الناشئتين بعد سقوط الدولة العثمانية، لم تنتجا مشروعا ثقافيا منذ أول ظهور لهما قبل قرن.
النزعة القومية المفرطة مانعة من التمدد نحو الوعي السني في المنطقة. وممارسة عملية جذب الأطراف نحو المركز يفرض تجاوز مشكلة النزعة القومية المفرطة، التي يرى فيها الآخرون تهديدا لهوياتهم الفرعية، ومشاعرهم وثقافتهم الخاصة. لابد أن نتساءل لماذا تنجح إيران في ربط علاقات تكافلية مع العراق وسوريا؟ في الوقت الذي لا يعمل الأتراك على إيجاد مثل هذا التكافل مع المكونات العربية.
ولماذا لا يتصرف الأتراك بمنطق البرغماتية الثقافية مثل إيران، التي قامت بجلب رجال الدين الشيعة العرب لتشكيل نواة مذهب الدولة الفارسية وثقافتها، في لحظة تأسيس إمبراطوري في القرن السادس عشر. إن مثل هذه الخطوات هي ما يؤهل تركيا ويعدها للقرن القادم.
أظن أن من واجبي هنا أن أؤكد أن المذهب الشيعي، هو ما يحرم إيران من جاذبيتها الحقيقية ومجدها الثقافي. لكن تركيا إذ تستند إلى انتمائها السني، يصعب أن تنخرط في أي تدافع مذهبي مع الجوار الشيعي، لأن حسابات السياسة تجعل الأتراك مختلفين عن السعودية في مزجها الصراع المذهبي والسياسي مع إيران في خلطة واحدة، وهو ما لا يفضله الأتراك ويجتنبونه منذ زمن بعيد.

ترميم علاقة السياسة بالثقافة

هناك أمر في التاريخ يكاد يكون قانونا، وهو نجاح الرؤية الثقافية التي تدعمها سلطة راعية. في تلك اللحظة تتحول الأفكار إلى برامج في الواقع. وعندما تخرج الأفكار من مصنعها ويلبسها رجل السياسة، تصبح رؤية مجتمعية. إن تصور مشروع ثقافي سني فاعل مجرد عن الارتباط بسلطة راعية، يبدو أمرا عبثيا. التقاء السياسة بالثقافة يحتاج إلى خلق مجال لحدوث هذا الأمر.
التفاصيل مهمة في هذا الجانب وإن كانت صغيرة، فقد كانت فكرة الدروس الحسنية في رمضان التي يستضيف فيها ملوك المغرب علماء ومفكري الإسلام، فرصة نادرة في العالم العربي لاستماع رجل الدولة إلى المثقفين ومناقشتهم أحيانا كثيرة.
إن هذه الفكرة المغربية العبقرية في شكلها ومضمونها لم تتم الاستفادة منها في المنطقة، كما أن المغرب نفسه لم يقرر حتى اللحظة أن ينبعث من جديد. إن تركيا في حاجة إلى مثل هذه النماذج التي هي أكبر من منظمة المؤتمر الإسلامي نفسه.

إحياء الإصلاحية المدرسية

يعتبر هذا العنصر أساسيا في المشروع الثقافي الإسلامي. ذلك أن الأتراك حتى هذه اللحظة لم يطوروا مشروعا أو أفكارا إصلاحية في المنطقة، منذ تجربتهم الناجحة مع مدرسة بديع الزمان النورسي. الأتراك يتقنون تحويل الأفكار التربوية إلى مؤسسات اجتماعية، أكثر من أي مكون سني آخر. وعليهم ألا يضيعوا هذه الخاصية وتصديرها إلى المنطقة، كما فعلوا مع رسائل النور، التي كانت جزءا من موجة الإصلاح السني في القرن الماضي.

الليبرالية الإسلامية

تحتاج تركيا أن تركب موجة الليبرالية السنية المتنامية في المنطقة، ورغبة الانفتاح العارمة. وتمثل تركيا بورجوازية ثقافية تحمل قيم الطبقة المتوسطة في المنطقة وتدعمها. كما أن قرار قلب الوجهة عوضا عن الاتحاد الأوربي والانخراط السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم العربي والإسلامي، يحتاج أن يرافقه قرار مماثل بالانخراط الثقافي الفاعل في المنطقة.
أهم عنصر في بنية المشروع الثقافي السني في هذه المرحلة، هو القدرة على تدبير موجة الانفتاح العنيفة في المنطقة، بسبب تأثير الاتجاهات العالمية.
إن إدارة جموح الأجيال الحالية نحو التحرر من القيود، لن يكون الفقه والتشريع والوعظ كافيا لمواجهته، بل إن تطور فكرة المدرسة الروحية سيكون أمرا أساسيا مستقبلا. ويبدو تقوية الحواجز النفسية للأجيال الحالية في وجه المحرمات الكبرى، ودعم النزعة الإنسانية في الوعي العام أمر ضروري.
تحتاج الرؤية الثقافية إلى أقصى درجات التبسيط والوضوح، بالنظر إلى عدم ملاءمة الأيديولوجيات الكثيفة لطبيعة التكوين النفسي للأجيال الحالية. إن أحد أسباب انتشار ثقافة التفاهة هو اعتمادها على عنصر التبسيط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News