ثقافة

أفاية يسترجع إزعاج الإبداع للسلطة.. فكك علاقة السينما بالفلسفة واستسلم أمام التفاهة!

أفاية يسترجع إزعاج الإبداع للسلطة.. فكك علاقة السينما بالفلسفة واستسلم أمام التفاهة!

في محاضرة للمفكر المغربي محمد نور الدين أفاية، تحت عنوان المتخيل السينمائي وأسئلة الفكر، على هامش المهرجان المغاربي للفيلم بوجدة المنظم ما بين 7 و12 أكتوبر الجاري، فكك الدكتور، الذي أسندت له مؤخرا مهمة تسيير معهد الفنون، العلاقة بين السينما والفلسفة، والعلاقة المتقلبة بين الإبداع والسلطة السياسية بالمغرب عبر التاريخ، وصولا للحقبة الحالية التي قارب فيها موضوع التفاهة ودور وسائل التواصل الاجتماعي.

مختبر صناعة الثقافة والاتصال والبحث السوسيولوجي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة، فتح أمام الحاضرين فرصة مهمة للتفكير العميق في الإبداع والسينما المغربية، ما ترجمه ثناء المتدخلين وأسئلتهم التي دفعت المفكر أفاية للتفاعل أكثر.

العمل السينمائي، وفق أفاية، مرتبط بحركة الإبداع داخل كل مجتمع من المجتمعات، وفي السينما المغربية إلى حدود أواسط التسعينات، وبدرجات متفاوتة، كان هناك مشكل ب”التخيل”، وهذا ليس مرتبط بالسينما بل ينطبق حتى على المجالات الإبداعية الأخرى المغربية سواء كانت شعرا أو قصة أو غيرها، وفقه.

وفي لمحة تاريخية غنية يقف أفاية عند مغرب الستينات من القرن الماضي، الذي كان مختبرا حقيقيا لنوع من أنواع النهوض الذاتي الذي وجد في وسائل التعبير الحديثة مناسبة لتفجير تطلعه نحو إثبات هوية جديدة، الأمر الذي ظهر في التشكيل والشعر الحديث والمسرح.

السينما في المغرب، بدأت بشكل متعثر عبر أفلام قصيرة في أواسط الستينات وأواخرها مع “شمس الربيع” وأفلام أخرى، إلى أن بدأت في السبعينات مع “وشم الذاكرة”، لكن هذه الحركة كلها كانت مرتبطة بنوع من أنواع المد النخبوي لإثبات أن هناك وعي جديد مغربي قياسا إلى تراث وإلى واقع وقياسا إلى عالم يحيط به، وفق الدكتور أفاية.

الإبداع مزعج للسلطة

هذا المد، في رأي أفاية، تعرض لكثير من “الحصار والاضطهاد من طرف السلطة السياسية التي مارست تشويش حقيقي على هذا النزوع الإبداعي”، بدليل أنه في الأغنية المغربية، أجمل الأغاني كانت في الستينات، لأن السلطة السياسية فرضت على المغنين والكتاب والملحنين إنتاج ثلاث إلى أربع أغاني وطنية سنويا. الأغنية الوطنية جاءت لقتل الإبداع داخل الأغنية المغربية، يلخص أفاية بعبارة مقتضبة.

هذا الأمر دام لأكثر من ربع قرن من الزمن إلى أن جاء الملك محمد السادس واتخذ قرارا بإيقاف الأغنية الوطنية، يذّكر أفاية، إذ أنه كان هناك قرار سياسي لمنع الإبداع، بل وحتى التفكير لأنه كان يزعج السلطة السياسية بالمغرب، ومع ذلك استمر المفكرون والمبدعون والكتاب بالرغم من كل أشكال المضايقة والمنع والحصار، الذي تمثل خلال الثمانينات في إغلاق كل المجلات الثقافية بالمغرب.

ومع ذلك، يسترسل المفكر المغربي الذي أسندت له مؤخرا مهمة تسيير معهد الفنون بالمغرب، أنه في بداية الثمانينات بدأت تظهر أفلام تطرح مشاكل اجتماعية، مضيفا بأن أغلبية الأفلام المغربية كانت ملتصقة بمشاكل اجتماعية وقضايا كبرى يعرفها المجتمع.

فيلم “حب في الدار البيضاء” سنة 1991 كان حدثا في تاريخ السينما المغربية لأنه أنتج جدالا حقيقيا وتمخض عنه نقاش ودينامية في التفكير والكتابة. وفي أواسط التسعينات بدأ المغرب يدخل في مجالات الإبداع كافة إلى آفاق جديدة في التخيل، وبدأت الرواية تنتج نصوصا على درجة كبيرة من المتانة والإقناع، إضافة إلى دخول العنصر النسوي بشكل واسع للكتابة الإبداعية في المغرب، وهذا مؤشر مهم جدا وليس بسيطا.

السينمائي ليس فيلسوفا

السينمائي ليس مطالبا أن يكون فيلسوفا وإنما الفيلم كتكثيف للحظة اجتماعية وثقافية وتكثيف لنظام رمزي ودلالي يمكن أن يشكل انفتاحا على أسئلة وقضايا يشتغل عليها المفكر المهتم بتطور الحساسية الجماعية أو بدرجة من درجات الصراع السياسي والحضاري لمجتمع ما.

والسينما، حسب أفاية، حقل إبداعي جدي يحفز الناس على التفكير ويدفعهم إلى الاجتهاد والنظر، إذ يتعامل كل واحد مع السينما انطلاقا من موقعه الثقافي، والفلاسفة والمفكرون أيضا لديهم سينماهم الخاصة، وقد يتفرجون مثل الجميع لكنهم يكتبون على الموضوع بطريقتهم الخاصة.

في سياق فير بعيد يقف أفاية عند دعم السينما، مشيرا إلى أن المغرب لا زال يحتضن الفعل السينمائي باحتشام، مردفا “ومن حسن حظ المخرجين والعاملين في السينما أن الدولة المغربية لا تزال مصرة على المحافظة على الدعم، ولنا أن نتخيل لو تم إيقاف هذا الدعم العمومي، ربما توقف مخرجين كثر”.

السينمائي، عند أفاية، مبدع ومفكر يستغل الصور ومختلف الأدوات الأخرى المصاحبة لسيارة تفكيره، اعتمادا على وسائله التقنية. وإذا كان الفيلسوف، كما يقول جيل دولوز، يعتمد على المفاهيم من أجل التفكير، فإن السينمائي، وفق أفاية، يجعل من الواقع والصور والتخيل بعضا من مقومات التفكير.

بعض المصطلحات في القاموس الفلسفي تلتقي بشكل جوهري مع قاموس السينما، مثل كلما “الرؤية” و”التصور” و”المنظور” و”زاوية النظر” و”العيني”، وهي مصطلحات تحيل على الفكر لكن يتم استعمالها في ما هو بصري، مما يجعلها غير بعيدة عن اللغة السينمائية.

والمتخيل، وفق الباحث المغربي وأستاذ الفلسفة أفاية، مصطلح يستعمل في شتى المجالات، أحيانا بدقة وأحيانا بدونها، وهذا المصطلح قد يلتبس مع الخيال أو المخيلة أو مع التخيل الذي هو فعل المُخيلة، ما يجعلها في حاجة إلى التدقيق.

وفق المفكر أفاية فالمتخيل يمثل نوع من الحوض الدلالي Bassin symantique الجامع لكل الرموز والمقومات الثقافية، ومنه تستمد الصور رموزها ومعانيها وكثافتها وألغازها. وهو ليس كلاما تجريديا بل هو موحود في نسيج المجتمع والعلاقات، وله دور في الحياة البشرية، وطالما تمت صناعته من أجل تعبئة النفوس.

والسينما، بالنسبة للمفكر المغربي نفسه، مجال إبداعي خصوصي يوفر فرصا كبيرة للتفكير وللنظر، كما يمكن أيضا أن تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة سواء تعلقت بالذات أو الهوية أو الوجود أو بالتاريخ.

راية بيضاء أمام “التفاهة”!

يقول المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية، ضمن المحاضرة نفسها، أن التفاهة ليست أمرا مغربيا خالصا، لاسيما مع الارتجاجات الكبرى التي صنعتها الثورة الرقمية ووسائط “اللا تواصل” الاجتماعي، فمع انتشار هذه الوسائل أصبح “قاع المجتمع”، الذي كان غير مرئيا، يُرى الآن بكل أشكال الوقاحة والسقوط الأخلاقي.

والعالم إلى اليوم لا يزال عاجزا عن وقف هذه الفوضى في البث والنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويشهد العالم نقاشا حول هذا الأمر لا أحد يعلم إلى ماذا سينتهي.

يضيف أفاية “الثقافة مستويات، هناك الثقافة العالمة بمستوياتها، وهناك الثقافة الشعبية بشتى تعبيراتها، واليوم نعيش الثقافة الوسائطية، لكن هذه الأخيرة لا تمتلك أي ضوابط محددة، إلا في حال تدخل السلطات لضبط بين الفينة والأخرى”.

وبالرغم من أننا نعيش في “عالم التفاهة”، يرفض أفاية الاستسلام لهذه الفكرة مُصرا على أن هناك انتاجات جيدة، إذ أنه إذا أردنا تحصين ذواتنا وإدراكنا يمكن أن نحصل على مواقع ومصادر معرفة وإبداع مفيد.

وحول الصور المضادة للتفاهة الممكن إنتاجها، افاد أفاية أنه “عاجز” عن تقديمها، ذلك أن دول كبرى عجزت عن هذا الأمر. ملخصا “التفاهة مضرة بشكل خطير على المستوى المتوسط والبعيد، لأن هذا الاجتياح للوسائل النقالة والصور المتوفرة تستهدف الوجدان، ولا يمكن إلا أن نقول إنه ينبغي تحصين أنفسنا عبر العائلة وتأطير المدرسة حتى لا يكتسحها المجتمع”.

وأورد أن المدرسة المغربية غزاها المجتمع بالفعل، واختُرقت دواليبها من طرف سلبيات المجتمع، مؤكدا على أنه يجب قلب المعادلة لتصبح المدرسة مؤسسة تأطيرية للمجتمع في اتجاه إنتاج القيم التي لا تتصالح مع التفاهة.

وخلال السنتين الأخيرتين من كورونا عشنا تحولا أنثروبولوجيا في التاريخ، ولم يكن عملا سهلا مواجهتها، ومواقع التواصل الاجتماعي لعبت دور خطيرا جدا على مستوى الإشاعة ونشر أفكار المؤامرة ونهاية العالم، لكنها أيضا لعبت دورا مهما في تنوير الناس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News