نحو إعداد الإنسان المغربي لكأس العالم 2030.. استثمار في المستقبل وتنمية للعقل والوجدان

حين فاز المغرب بشرف تنظيم كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال، لم يكن هذا الانتصار مجرد مكسب رياضي أو دبلوماسي، بل لحظة فاصلة في التاريخ الوطني، تفرض علينا مراجعة شاملة لمنظومة التنمية بكل أبعادها، وفي قلبها العنصر البشري. فلا يمكن أن يكون النجاح في تنظيم هذا الحدث العالمي فقط في الملاعب الحديثة أو الطرق السيارة أو الفنادق الفاخرة، بل يجب أن يكون أساسه إنسان مغربي مؤهل، معتز بهويته، وواعٍ بأهمية موقعه في هذه المرحلة التحولية
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتعين علينا أن نستثمر في الإنسان المغربي باعتباره المحرك الأول لكل المشاريع الكبرى. الرهان لم يعد فقط اقتصاديا، بل هو رهـان حضاري وثقافي وقيمي. المغرب أمام فرصة تاريخية كي يعيد التفكير في منظومته التربوية، وكي ينقل تركيز السياسات العمومية من الاستثمار في الحجر إلى الاستثمار في البشر
التعليم يشكل الأساس الذي عليه يُبنى أي تحول مجتمعي حقيقي. ولعل الواقع اليوم يُبين بوضوح حجم التحديات التي تواجه المدرسة العمومية. لكن كأس العالم 2030 يمكن أن يشكل دافعًا لإصلاح حقيقي، إصلاح يُعلي من جودة التعليم ويربط بين مخرجاته ومتطلبات العصر. نحتاج إلى تعليم يُخرج من فصوله شبابًا مبدعًا، متشبعًا بروح المبادرة، قادرًا على الاندماج والمنافسة. كما يجب تقوية التكوين المهني، لا كملاذ أخير، بل كخيار استراتيجي يُواكب الثورة الصناعية الرابعة، ويُغذي قطاعات واعدة كالسياحة الرياضية، والخدمات اللوجستيكية، والتكنولوجيات الحديثة
لا يمكن الحديث عن الرأسمال البشري دون استحضار الصحة باعتبارها ركيزة من ركائز تنمية الإنسان. منظومتنا الصحية تحتاج إلى إصلاح شامل وعميق، يضمن العدالة المجالية في الولوج إلى العلاج، ويُحسن من جودة الخدمات ويُثمن كفاءة الكوادر الطبية. المواطن السليم هو من يبني، يبدع، ويستقبل ضيوف بلاده بكرامة وثقة. إن كأس العالم يجب أن يكون أيضًا مناسبة لتحديث المستشفيات، وتوسيع التغطية الصحية، وجعل الوقاية الصحية سلوكًا جماعيًا راسخًا
من جهة أخرى، فإن المجتمع المغربي لا يمكن أن يحقق التنمية المرجوة دون إشراك فعلي للنساء والشباب. هؤلاء ليسوا فقط فئات مستفيدة من التنمية، بل يجب أن يكونوا فاعلين وشركاء في صياغتها. تمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا سيعزز من حضورها في مختلف مجالات الحياة، كما أن تأطير الشباب وتحفيزهم على الانخراط في مبادرات رياضية، بيئية، وثقافية سيُرسخ قيم الانضباط والمبادرة والمسؤولية. كأس العالم يمكن أن يُحوّل طاقة الشباب من التذمر والانتظار إلى العمل والمشاركة والإبداع
هناك جانب آخر لا يقل أهمية، يتعلق بتعزيز ثقافة الانفتاح والتعايش وقبول الآخر. كأس العالم سيجعل من المغرب قبلة لملايين الزوار من مختلف الجنسيات والثقافات، مما يستوجب إعدادًا ثقافيًا ونفسيًا واجتماعيًا للمجتمع المغربي لاستقبال هذه الموجات البشرية المختلفة. علينا أن نُربي أجيالًا على الاحترام، على التنوع، وعلى الإحساس بأننا ننتمي إلى عالم واسع تتعدد فيه الألسن والثقافات لكن تتوحد فيه القيم الإنسانية الكبرى
ولا بد من التأكيد على أن الإعلام الوطني يجب أن يلعب دورًا محوريًا في إنجاح هذا الورش البشري. الإعلام مطالب بمرافقة الإصلاحات، بنقل النقاشات، بإبراز قصص النجاح، وبإشاعة روح الثقة. إعلام يقرب المواطن من الحدث، ويُشعره بأنه شريك لا مجرد متفرج، ويُساهم في نشر ثقافة الإيجابية والمبادرة والانخراط
التحول الرقمي أيضًا يمثل رافعة أساسية من أجل تحديث الرأسمال البشري. يجب تسريع رقمنة الخدمات العمومية، وتطوير الكفاءات الرقمية، وتمكين المواطنين من المهارات اللازمة للعيش في عصر الذكاء الاصطناعي. كأس العالم سيكون حدثًا مُتداخلًا مع التكنولوجيا، من حيث التنظيم، والأمن، والتواصل، والخدمات، ما يجعل من الضروري بناء جيل رقمي، يتقن أدوات العصر، ويُساهم في خلق محتوى وطني متجدد
وأخيرًا، فإن الرهان الحقيقي ليس فقط في أن نُبهر العالم في صيف 2030، بل في أن نُبهر أنفسنا أولًا بقدرتنا على التغيير، وعلى بناء نموذج تنموي يُقدّم الإنسان على كل شيء. نجاحنا في كأس العالم لن يُقاس فقط بعدد السياح أو الأرباح الاقتصادية، بل بمدى قدرتنا على جعل هذا الحدث نقطة تحول تاريخية نحو مغرب جديد، مغرب يضع الإنسان في صلب اهتماماته، ويجعل من رأس المال البشري ثروته الأولى والأكثر ديمومة.
أستاذ بالمعهد العالي للمهندس و التدبير بالدار البيضاء-