رهانات ملف الصحراء المغربية وموازين القوة الناعمة

تعد القوة الناعمة من أبرز الأدوات التي باتت الدول تعتمد عليها لتعزيز نفوذها ومكانتها في النظام الدولي. فبعيدًا عن أدوات الإكراه التقليدية، كالقوة العسكرية أو الاقتصادية، تعتمد القوة الناعمة على عناصر الجذب والإقناع من خلال الثقافة، القيم، السياسة، والدبلوماسية. وقد استطاع المغرب، من خلال نهج متزن ورؤية استراتيجية بعيدة المدى، أن يُطوّع هذه القوة بشكل فعّال لتعزيز حضوره إقليميًا ودوليًا.
المغرب لا يكتفي بترويج صورته من خلال الحملات الإعلامية أو الخطاب السياسي، بل يعكس هذا التوجه عبر سياسات ملموسة تتجسد في التزامه بالتنمية المستدامة، والانخراط الإيجابي في قضايا المنطقة، وتعزيز التعاون متعدد الأبعاد مع مختلف الدول. فقد كرّس عبر السنوات الأخيرة نموذجًا خاصًا في إدارة علاقاته الخارجية، يقوم على الحوار، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، ما أكسبه مكانة متقدمة ضمن محيطه الإقليمي، وسمعة إيجابية على المستوى العالمي.
ويظهر هذا التوجه بوضوح في تصنيفات القوة الناعمة الدولية. ففي تقرير “براند فاينانس” لسنة 2025، حافظ المغرب على مكانته في المرتبة الخمسين عالميًا، من بين 193 دولة، محققًا 40.6 نقطة، وهو ما يجعله متصدرًا في منطقة المغرب العربي، ومتقدمًا على كل من الجزائر وتونس، كما أنه يحتل المرتبة الثالثة على مستوى القارة الإفريقية بعد مصر وجنوب إفريقيا. هذا الترتيب لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة تراكُم جهود دبلوماسية وتنموية، رسخت حضور المغرب كفاعل موثوق ومتوازن في محيطه الجهوي والقاري.
ولا يمكن فصل هذا التقدم عن الرؤية الملكية التي جسدها الملك محمد السادس، والتي بُنيت على أسس استراتيجية هرمية تجمع بين الحضور الميداني والتخطيط البعيد المدى في تجانس تام بين جميع محاور القوة الناعمة. هذه الرؤية مكّنت المغرب من بناء شراكات متينة، لا سيما مع الدول الإفريقية والعربية، في إطار من التعاون الحقيقي والاحترام المتبادل. كما أن المبادرات التي أطلقها الملك في مجالات الاقتصاد، البنية التحتية، التعليم، والدين، عززت من جاذبية النموذج المغربي، وجعلته محل اهتمام وتقدير من عدد متزايد من الدول، التي ترى فيه شريكًا يُحتذى به في قضايا التنمية والاستقرار.
في سياق موازٍ، لعبت قضية الصحراء المغربية دورًا محوريًا في ترسيخ حضور المغرب على الساحة الدولية. فرغم كون هذا الملف يمثل تحديًا جيوسياسيًا معقدًا، إلا أن المملكة نجحت في تحويله إلى ورقة دبلوماسية فاعلة تعزز من شرعيتها الدولية، خاصة بعد تزايد عدد الدول الداعمة لمبادرة الحكم الذاتي، التي تُعتبر حلًا واقعيًا وذا مصداقية. ويأتي في مقدمة هذه الدول كل من الولايات المتحدة الأمريكية، التي اعترفت رسميًا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية في دجنبر 2020، وفرنسا التي أعلنت، بشكل صريح وواضح في يوليوز 2024، دعمها الكامل لمغربية الصحراء، معتبرة المبادرة المغربية للحكم الذاتي الأساس الوحيد الواقعي والجاد لحل النزاع. ويكتسي هذا الموقف أهمية استراتيجية، بالنظر إلى ثقل البلدين كعضوين دائمين في مجلس الأمن.
وهنا يبرز سؤال جوهري: من أعطى الزخم للآخر؟ هل ملف الصحراء هو الذي دفع المغرب إلى بناء نموذج قوي للقوة الناعمة؟ أم أن هذا النموذج المتكامل هو من خدم الملف وقاده نحو لحظة التحول؟
الواقع أن العلاقة بين ملف الصحراء والنموذج المغربي في القوة الناعمة هي علاقة تفاعلية وتبادلية. فمن جهة، شكل ملف الصحراء دافعًا لتطوير أدوات القوة الناعمة المغربية، حيث أجبر المملكة على الانتقال من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، واعتماد دبلوماسية أكثر انفتاحًا وابتكارًا. ومن جهة أخرى، فإن النموذج المغربي في القوة الناعمة، بما راكمه من مصداقية إقليمية ودولية، هو الذي أعاد توجيه هذا الملف الاستراتيجي نحو الحل، وحوّله من عبء دبلوماسي إلى ورقة تأثير وقوة. لقد مكّن هذا النموذج المملكة من كسب دعم متزايد لمبادرة الحكم الذاتي، وعزز من دينامية الموقف المغربي، الذي أصبح اليوم أكثر استباقية وحضورًا دوليًا، بعد أن كان مجرد ردّ فعل على خصومه.
هذا الانخراط الدولي المتصاعد يُجسد بوضوح مدى نجاعة السياسة الخارجية المغربية وقدرتها على تحويل التحديات إلى فرص لتعزيز حضورها وتأثيرها على الصعيدين الإقليمي والدولي. أما على الجهة المقابلة، فإن التوتر القائم بين المغرب والجزائر ساهم بشكل غير مباشر في تعزيز صورة المغرب كقوة ناعمة متزنة. ففي الوقت الذي اختارت فيه الجزائر، خاصة بعد صعود أجنحة متشددة داخل النظام العسكري، النهج التصعيدي القائم على التسلح واستغلال الريع الطاقي كأداة ضغط، حافظ المغرب على خط دبلوماسي هادئ يركز على الربح المشترك، والبحث عن حلول سلمية للنزاعات. هذا التباين في التوجهات عمّق من عزلة الجزائر، وساهم في تآكل صورتها على المستوى الإقليمي والدولي، مقابل تعزيز مصداقية المغرب كدولة مسؤولة وواقعية في تعاملها مع التحديات.
وتجسّد الأزمة الفرنسية-الجزائرية أحد النماذج الصارخة على هذا الانغلاق الجزائري، حيث فشل النظام العسكري في بناء علاقة متوازنة مع فرنسا، شريك تاريخي واستراتيجي. فبدلًا من استخدام ملف الذاكرة الاستعمارية كجسر للحوار والمصالحة على غرار دول كثيرة في العالم، استُخدم كورقة تعبئة داخلية، مما أفضى إلى أزمات دبلوماسية متكررة، كشفت هشاشة هذا النظام وعجزه عن ممارسة أي شكل فعّال من أشكال القوة الناعمة. وقد ازدادت حدة هذه الأزمة مؤخرًا مع الاعتراف الصريح والمباشر بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وهو الأمر الذي تعتبره الجزائر تهديدًا مباشرًا لخطابها السياسي وموقفها التقليدي من النزاع. وبدل أن تتعامل مع هذا التحول بمرونة دبلوماسية، ردّت المؤسسة العسكرية الجزائرية بتأجيج التوتر، ما فضح مرة أخرى عجزها عن مسايرة التحولات الجيوسياسية المتسارعة، وأكد أنها تفتقد إلى الأدوات السياسية المتزنة لإدارة خلافاتها الخارجية.
هذا الإخفاق لا يُعد مجرد حالة داخلية معزولة، بل يُمثّل مصدر قلق إقليمي حقيقي، بالنظر إلى احتمال تحوّله إلى أحد أسباب الأزمات المستقبلية في شمال إفريقيا. فالنظام الجزائري، بوضعه الحالي، يشكّل حالة شاذة داخل المنطقة، تُعيق مسارات التكامل، وتُغذّي التوترات بدل تهدئتها. ويتجلّى هذا الفشل أيضًا في عجز الجزائر عن فرض جبهة البوليساريو المتآكلة كفاعل شرعي، في وقت باتت فيه هذه الجبهة فاقدة للشرعية الدولية ومتورطة في قضايا ذات صلة بالإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، بالإضافة إلى تدخل عناصرها في نزاعات مدمرة كالحرب في سوريا.
وفي هذا السياق، بدأت تظهر بوادر من داخل النخبة الجزائرية تُعبّر عن تخوّف من أن يتحوّل استمرار دعم جبهة البوليساريو إلى عنصر زعزعة حقيقي لاستقرار الجزائر ذاتها. فقد أبدت بعض الأوساط القلقة في الجزائر، سواء عبر وسائل الإعلام أو في دوائر البحث الأكاديمي، خوفًا من أن تظل قضية الصحراء بمثابة العبء الذي يستهلك الموارد الاقتصادية ويفاقم الاحتقان الداخلي في وقت تشهد فيه البلاد تحديات سياسية واجتماعية عميقة.
في المقابل، تبرز القوة الناعمة المغربية كأحد الأعمدة التي يقوم عليها الاستقرار الجيو-استراتيجي في المنطقة، إذ يُنظر إلى المغرب اليوم كدولة مسؤولة، قادرة على لعب دور محوري في هندسة التوازنات المستقبلية بفضل سياسته المتوازنة، وانخراطه الفعّال في قضايا التنمية والأمن. ويظهر حرص المغرب على تنويع علاقاته وتعزيز نفوذه بشكل خاص في انخراطه الفعّال في القارة الإفريقية. فبعد العودة التاريخية إلى الاتحاد الإفريقي، انطلقت المملكة في مسار استراتيجي يقوم على بناء علاقات تنموية وثقافية واقتصادية مع الدول الإفريقية، تُعلي من منطق الشراكة لا الوصاية. هذا التوجه أكسب المغرب احترامًا واسعًا، وسمح له بإعادة بناء جسور الثقة مع شعوب ودول كانت لسنوات خارج دائرة التعاون المباشر.
ورهان المغرب على القوة الناعمة لا يعني مطلقًا التخلي عن مقومات القوة العسكرية، بل هو اختيار استراتيجي متوازن يجمع بين أدوات التأثير السلمي ووسائل الدفاع السيادي. فبقدر ما يعوّل المغرب على دبلوماسيته التاريخية العريقة في تجنب النزاعات والحروب المدمرة التي لا تنتج سوى الخراب، فإنه في الوقت نفسه يحتفظ بقدرات عسكرية كفيلة بحماية وحدته الترابية وصون أمنه القومي. هذا التوازن يعكس نضج الرؤية المغربية، التي تدرك أن السلام لا يُبنى فقط بالنوايا الحسنة، بل أيضًا بالقدرة على الردع.
غير أن هذا المشهد الإيجابي لا يُخفي وجود بعض الاختلالات التي تُحدّ من فعالية القوة الناعمة المغربية، خصوصًا فيما يتعلق بملف الصحراء المغربية. فبرغم نجاح الجهاز الدبلوماسي الرسمي في كسب مواقف داعمة وازنة، إلا أن أذرعًا أخرى يفترض أن تلعب دورًا تكامليًا ظلت محدودة التأثير وضعيفة الأداء.
فـالدبلوماسية البرلمانية والحزبية، على سبيل المثال، فشلت في تحقيق حضور فعّال على الساحة الدولية، وغالبًا ما تغيب عن النقاشات الكبرى التي تُعقد في المحافل الإقليمية والدولية حول النزاع، أو لا تمتلك خطابًا موحدًا قادرًا على الدفاع عن الموقف المغربي باحترافية ومهنية. وينطبق الأمر ذاته على النقابات والمجتمع المدني، اللذين لا يزال دورهما في التأثير الخارجي هامشيًا وغير منظم، بالرغم من أنهما يُشكّلان في عدد من الدول الديمقراطية عنصرًا أساسيًا في الدبلوماسية الناعمة.
كما أن مراكز التفكير والبحث الأكاديمي، التي يفترض أن تُنتج المعرفة والخطاب التحليلي الداعم للمواقف الرسمية، تعاني من ضعف التأهيل وغياب الرؤية الاستراتيجية، مما يجعل إنتاجها محدودًا في الانتشار والتأثير، سواء لدى صناع القرار الأجانب أو النخب الفكرية الدولية. وهذا القصور يُفقد المغرب أداة قوية كان يمكن أن تُعزّز من حضوره في معركة الأفكار والسرديات التي تُعتبر اليوم جبهة متقدمة في النزاعات الجيوسياسية.
ولا شك أن هذه المكونات، لو قامت بدورها على الوجه الأمثل، لكان المغرب قد حقق ترتيبًا أفضل على مستوى القوة الناعمة الدولية، ولربما انتزع الريادة الإفريقية بدل الاكتفاء بالمرتبة الثالثة. الأهم من ذلك، أن الأثر الإيجابي كان سينعكس بوضوح على ملف الصحراء المغربية وملفات سياسية واقتصادية اخرى، من خلال توسيع دائرة الدعم، ومزيد من التحصين للموقف الوطني في مختلف الساحات الدولية.
إن قوة المغرب اليوم لا تتجسد فقط في مواقفه الدبلوماسية، ولا في جاهزيته العسكرية، بل في تماسك جبهته الداخلية، ووعي شعبه بعدالة قضيته، وهو ما يُعدّ في السياقات المعاصرة أحد أبرز عوامل التفوق في الصراعات ذات الطابع الاستراتيجي. وبينما يزداد الإيمان الشعبي المغربي بجدوى مقترح الحكم الذاتي وواقعيته، تتآكل القناعات من الجانب الآخر، ما يجعل من المغرب ليس فقط قوة إقليمية صاعدة، بل ركيزة أساسية في معادلة الاستقرار الجيوسياسي بالمنطقة.
مقال غني بالمضامين التحليلية يعكس فهماً جيدا لرهانات ملف الصحراء المغربية في سياق التحولات الإقليمية والدولية، مع إبراز لدور القوة الناعمة كرافعة دبلوماسية واستراتيجية لتعزيز الموقف المغربي. يُسجَّل للمؤلف عمق الطرح ودقّة التموقع النظري، مما يجعل من هذا العمل مساهمة معرفية جديرة بالاهتمام. شكرا مدار21 على الأعمال الجادة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحليل عميق يعكس واقع الحال اليوم.