موسوعة محمد باهي بعيون بودرقة والزاهي: تكريم للفكر المغربي العابر للحدود

عبر الحقوقي والفاعل السياسي سابقاً، امبارك بودرقة، عن سعادته الكبيرة بتقديم الجزء التاسع من موسوعة محمد باهي حرمة، معتبراً أن هذا المشروع الفكري يسلط الضوء على شخصية استثنائية طبعت تاريخ المغرب والعالم العربي، رغم أنها لم تنل تعليماً نظامياً تقليدياً.
واعتبر امبارك بودرقة، في تصريح لجريدة “مدار21″، أن محمد باهي يمثل نموذجاً فريداً للمثقف العصامي، الذي راكم معارف واسعة وتحليلات دقيقة دون المرور من المدرسة أو الجامعة، معتمداً على نبوغه الخاص، وجرأته الفكرية التي تجلت في قدرته على استشراف التحولات الكبرى في المنطقة.

وتابع كاتب مقالات جريدتي التحرير المحرر 1959-1965، “يموت الحالم ولا يموت حلمه”، التي خصص لها المعرض الدولي للنشر والكتاب، الأربعاء ندوة خاصة لتقديمه، وذلك بقاعة “حوار”، أن باهي كان من أوائل من تحدّثوا عن قيام دولة كردية في شمال العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي، في وقت كانت فيه هذه الفرضية تعد ضرباً من الخيال السياسي.
كما أكد بودرقة أن الصحافي الراحل نبّه منذ عقود إلى هشاشة الحدود العربية التي رسمتها القوى الاستعمارية، متوقعاً أن يعاد رسمها لاحقاً، وهو ما بدأت ملامحه تظهر بالفعل في السنوات الأخيرة من خلال النزاعات والانقسامات.
واستحضر المقال الذي كتبه باهي سنة 1965 بعنوان: “السودان: في البحث عن الزمن الضائع”، حيث طرح سؤالاً عميقاً عن مصير البلاد، معتبراً أن ما حدث بعد انفصال الجنوب هو تحقق فعلي لما كان يخشاه قبل ستين عاماً.

وواصل بودرقة قائلاً إن باهي لم يكن مجرد صحافي، بل كان مؤرخاً بالمعنى العميق للكلمة، إذ كتب عن الجزائر والمغرب بمنهجية دقيقة، وقدم روايات مدعّمة بالوثائق، تجعل من إنتاجه مرجعاً لا غنى عنه للباحثين والمؤرخين.
واسترسل مؤكداً أن من أراد أن يفهم التاريخ الحقيقي للمنطقة المغاربية، فعليه أن يعود إلى أعمال محمد باهي، لأنها تعكس وعياً مبكراً بطبيعة الصراعات والمشاريع السياسية التي ما زالت تؤثر في حاضرنا.
كما ذكّر بودرقة بأن عشرات من أطروحات الدكتوراه والأبحاث الجامعية اليوم تُنجز حول فكر محمد باهي، ما يثبت أن هذا المشروع الفكري لا يزال ينبض بالحياة، رغم وفاة صاحبه، وهو ما يعدّ استمراراً رمزياً لحضوره.
واستطرد قائلاً إن غياب باهي ترك فراغاً كبيراً، لكنه لم يكن غياباً كاملاً، لأن فكره لا يزال يُقرأ، ويُستشهد به، ويُناقش في الجامعات والندوات، ما يؤكد أن “الحالم قد يموت، لكن حلمه لا يموت”.
وأضاف أن موسوعة محمد باهي تمثل فرصة للتفكير في تحولات الماضي واستيعاب الحاضر، كما أنها دعوة لرد الاعتبار لقامات فكرية مغربية كتبت عن قضايا دولية، وتجاوزت في إنتاجها الحدود الجغرافية والثقافية.

وأشار إلى أن الأمل الكبير هو أن تُقرأ هذه الموسوعة قراءة معمقة، لا لمجرد الاطلاع، بل لفهم القضايا الراهنة من خلال التحليلات والخلاصات التي قدمها باهي، والتي ما زالت تحتفظ براهنيتها وقوتها التفسيرية.
وبدوره، يرى الدكتور والباحث محمود الزاهي أن محمد باهي ليس مجرد اسم في تاريخ الصحافة، بل هو أحد الأصوات التي ساهمت في تشكيل وعي عربي وإفريقي متقد، لما اتسمت به كتاباته من عمق فكري وجرأة تحليلية تجاوزت السياقات المحلية إلى الفضاءات الدولية.
وأوضح محمود الزاهي، في تصريح لجريدة “مدار21″، أن إصدار الجزء التاسع من الموسوعة يمثّل استمرارية لمشروع توثيقي وفكري يرصد تحولات العالم العربي والإفريقي، خصوصاً منذ خمسينيات القرن الماضي، مروراً بانهيار جدار برلين، وصولاً إلى اللحظة الدولية الراهنة.
وشدّد الزاهي على أن هذا العمل لا يقتصر على تأريخ الأحداث، بل يحمل دعوة واضحة إلى إعادة التفكير في المحطات الكبرى التي غيّرت وجه المنطقة، من خلال تحليلات باهي التي ما تزال تحافظ على راهنيتها وصدقيتها.

وأشار إلى أن موسوعة باهي تشكّل مدخلاً عميقاً لفهم أزمنة التحوّل، من خلال رصد المسارات السياسية والفكرية، بما يجعل منها مرجعاً حقيقياً للباحثين، وركيزة فكرية تساعد في إعادة بناء القراءة التاريخية للواقع العربي.
ولفت الباحث إلى أن مثل هذا العمل يُعد مناسبة لتكريم قامات فكرية مغربية أسهمت في بناء خطاب فكري حرّ، تجاوز الحدود الجغرافية ليُعبّر عن قضايا الشعوب ويفتح آفاقاً للحوار العابر للثقافات.
وأكد الزاهي أن الرهان الأساسي اليوم هو أن تصل هذه الموسوعة إلى القارئ، وألا تبقى في حدود النشر الأكاديمي، لما تحمله من قيمة معرفية، ومضامين فكرية تطرح أسئلة عميقة حول الهوية، والمصير، والتحول السياسي في منطقتنا.
ونوّه المتحدث ذاته إلى أن المشروع حظي باهتمام أكاديمي واسع، حيث يشتغل عليه باحثون من داخل المغرب وخارجه، معتبرين أن قوة الموسوعة تكمن في مضمونها، وغناها بالمصادر، ودقة الخلاصات التي توصل إليها محمد باهي.
واستعاد الزاهي أهمية استمرار الاشتغال على هذا المشروع الفكري، لأنه يفتح نوافذ لفهم قضايا معاصرة من خلال قراءة الماضي برؤية نقدية، ويمنح أدوات تحليلية لفهم الحاضر بعمق ووعي.
وختم قائلاً إن موسوعة محمد باهي ليست مجرد نصوص أرشيفية، بل مشروع حيّ يتطلب تفاعلاً مستمراً، لأنها تتجاوز التوثيق إلى بناء وعي نقدي يساعدنا في مواجهة أسئلة الراهن والمستقبل.