ينعاد عليكو”.. فلسطينيات بين التحرر وثقل التقاليد

يقدم فيلم “ينعاد عليكو” للمخرج الفلسطيني، إسكندر قبطي، الذي عرض، أمس الخميس، في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، دراما عائلية يفكك من خلالها جدلية التحرر والمحافظة داخل مجتمع فلسطينيي 1948، منسوجة على قناعة واضحة بأن المجتمع يتحرر حين تتحرر نساؤه.
من خلال وقائع مترابطة لأفراد أسرة بورجوازية من فلسطينيي مدينة حيفا، ترتسم بورتريهات، معظمها لنساء يتبنين مقاربات مختلفة لمكانة التقاليد في حياتهن ويجدن أنفسهن مدعوات للاختيار بين تحمل مسؤولية الحرية الفردية أو العيش وفق ما تسطره القوانين غير المكتوبة للمجتمع.
تصر حنان على إقامة حفل زفاف ابنتها ليلى وفق مستوى “يليق” بمكانة بالأسرة، رغم أن الوضع المالي آخذ في الانهيار. يرتبط ابنها رامي بعلاقة مع امرأة يهودية “شيرلي” تفضل الإجهاض لأن طفلها من انسان عربي “لا مستقبل له” على حد قول والدتها. علاقات بنتها فيفي تلاحقها بينما كان مشروع ارتباطها مع الطبيب وليد يسير قدما.
تسقط الأقنعة المجتمعية واحدا بعد الآخر، ويحتدم التوتر بين حفظ الوجه الاجتماعي وتحمل مسؤولية اختيار نمط الحياة الذي يبتغيه الفرد. باقتدار، يرسم المخرج المؤلف شخصياته، ويضعها في سياق دوائر من الحوار والصدام والحب أيضا. وبدون حشو أو افتعال، يرصد مظاهر من نمط عيش الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل، سواء بتصوير داخلي يسلط الضوء على اليوميات العائلية الحميمة في البيت الفلسطيني (مطبخ، موسيقى، طقوس احتفالية..)، أو في الفضاءات الخارجية التي يتحرك فيها الفلسطيني باختناق تحت سيطرة المؤسسات الإسرائيلية.
كما لو أن الفيلم يصر على تذكير الآخرين بأن الفلسطينيين مجتمع لا يختلف في إنسانيته عن الآخرين، وخصوصا في العالم العربي، حيث يتقاسم مشكلات الحرية ووضع الفرد في الجماعة، لكن سؤال التحرر في مجاله الاجتماعي لا يحجب ثقل السؤال في بعده السياسي، حيث يصطدم الانسان الفلسطيني في أراضي 1948 بميز ممنهج وتنشئة محرضة ضد الوجود العربي. وهنا أحد مكامن ذكاء الخطاب السردي الذي يعتمده الفيلم، في ابتعاده عن المباشرة السياسية.
تبدو حركة الممثلين وردود أفعالهم وتطور الوضعيات الدرامية مدهشة في طبيعيتها. ولعل عناصر الجواب عن ذلك تكشف عنها منى قبطي، زوجة المخرج وشريكته في كتابة السيناريو التي كشفت لوكالة المغرب العربي للأنباء أن الفيلم استند على طاقم تمثيلي غير محترف، وعلى مجالات واسعة للارتجال.
الممثلون غير محترفين، وهم يخوضون أول تجربة سينمائية لهم. لا أحد منهم كان يعرف عن تفاصيل القصة. المخرج يعرض الوضعيات لكن تفاصيل الحوار وردود الفعل من توليد الممثل في اللحظة والمكان، تقول منى قبطي التي تشير الى أن تصوير الفيلم استغرق مادة خام من 300 ساعة تم الاشتغال عليها في المونتاج.
وعن سر زاوية معالجة قضايا المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، أوضحت منى قبطي أنه “دائما يتوقع المشاهد أن نحكي حصرا ومباشرة عن الاحتلال. نحن أيضا مجتمع إنساني يعيش مشاكل وظواهر يتقاسمها مع مختلف شعوب العالم. فكان الرهان إذن على إبراز هذا الجانب الإنساني”.
لكن الواقع العنيد لا يرتفع. كانت المشاهد المصورة في الحضانة التي تعمل فيها الشابة فيفي تلتقط ملامح التنشئة العدوانية التي يتم بها بناء شخصية المواطن الإسرائيلي، وكان مشهد مغادرتها للاستعراض العسكري، وكان مشهد مظاهرة لحركة يمينية متشددة تدعو شباب إسرائيل الى عدم الارتباط بالعربيات…الخ.
عن ذلك، تقول منى قبطي إن الصدام مع المؤسسة الإسرائيلية قائم في خلفية أحداث الفيلم. ضغط المؤسسات على الانسان الفلسطيني، أساليب تنشئة الأطفال ..”الاحتلال هو أيضا احتلال نفسي”.
وتخلص الى أن الفيلم الذي قدم بمراكش في أول عرض على مستوى العالم العربي حكاية عن فلسطينيي الداخل لأن “لا أحد يعرف كيف نعيش”. أما الرسالة الكبرى فهي أنه “لا تحرر بدون تحرير النساء”.
من جهتها، تحدثت بطلة الفيلم، منار شهاب، التي لعبت دور “فيفي” عن مغامرة المشاركة في فيلم بطاقم تمثيلي غير محترف. “كان تحديا كبيرا لنا في غياب نص مكتمل. لكن العمل التحضيري كان مكثفا قبل الوقوف على الكاميرا”.
توضح منار في تصريح للوكالة أن المخرج زرع ممثليه في وضعيات شبيهة بوقائع الفيلم. التوجيه الإخراجي كان عاملا مساعدا ومحمسا. كان الرهان على المفاجأة وانفجار اللحظة مسألة مثيرة ولو أنه يولد نوعا من التوتر لإخراج أفضل ما لدى الممثل.
بفيلمه الطويل الثاني “ينعاد عليكو” يؤكد إسكندر قبطي موهبته المتميزة ضمن الجيل الجديد من فنانين حملوا السينما الفلسطينية الى العالمية من زاوية التركيز على قضايا الانسان. وقد عرف عن ابن حيفا أسلوبه الخاص في إدارة ممثلين غير محترفين، حيث يقوم بتدريس هذه التقنية في جامعة نيويورك وأبو ظبي وفي أماكن أخرى عبر العالم.
حصل فيلمه الطويل الأول “عجمي” (2009)، الذي شاركه في إخراجه يارون شاني، على تنويه خاص في مسابقة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، كما تم ترشيحه لجائزة أفضل فيلم أجنبي في الدورة 82 لجوائز الأوسكار.