ثقافة

مدرسة “ابن يوسف” بمراكش.. حين يُدهش التاريخ المغربي السُياح ويهجره أصحابه

مدرسة “ابن يوسف” بمراكش.. حين يُدهش التاريخ المغربي السُياح ويهجره أصحابه

بابتسامة لا تخلو من مكر، تلقى موظفة الاستقبال بـ”مدرسة ابن يوسف” العتيقة بمراكش الزوار المغاربة، فباستثناء المُرشدين السياحيين الذين يجرون خلفهم جحافل الأجانب الراغبين في استكشاف ماضي “الإيالة الشريفة”، قلّما يطلب منها أحدهم تذكرة بالدارجة المغربية.

وكأن الاستثناء يثلج صدرها؛ فها هيَ تقدم لـ”مدار 21” تذكرة بـ10 دراهم فحسب، علما أن الثمن المحدد في سبورة إلكترونية عند مدخل المدرسة هو 20 درهماً للمغاربة، و50 درهما للأجانب. لم تفصح الموظفة ولم تعطنا تفسيراً للتخفيض السخي، ما قيل مُجرد تخمين استندنا فيه إلى جولتنا في رحاب المدرسة العتيقة، المكتظة بالزوار، بيد أننا بالكاد صادفنا مغربيا أو مغربية.

لافتة مُعلقة عند المدخل توفر معلومات بالعربية والفرنسية والإنجليزية؛ تقول إن المدرسة تستقبل 230 ألف زائر سنويا، كما تعد من أبرز 10 معالم لا ينبغي للسائح تفويت زيارتها في المغرب.

تضارب في التواريخ

تقع مدرسة “ابن يوسف” داخل مسورة مراكش، على بعد أقل من دقيقتين مشياً على الأقدام من المسجد الذي يحمل نفس الاسم، نِسبة للأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، خامس حكام دولة المرابطين.

لكن وبخلاف معتقد شائع، اقتبست المدرسة اسمها من المسجد المجاور لها لا من مؤسسه، أي أنها شيدت بعده بقرون عديدة. فالمسجد بُني ما بين 1121 و1132 ميلادية؛ بينما تتضارب الأخبار حول تاريخ تأسيس المدرسة. ينسبها بعض الباحثين للسلطان أبي الحسن المريني الذي وضع حجرها الأساس في سنة 1346. ويستند هذا الرأي إلى شهرة العهد المريني بكوه عصر المدارس بامتياز، بحيث عمد سلاطين تلك الدولة إلى تأثيث أركان دولتهم بعدة مدارس في مدن مختلفة كفاس وسلا ومراكش.

أما وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المشرفة على المدرسة في الوقت الراهن، فتميل للطرح القائل إن مؤسسها هو السلطان السعدي عبد الله الغالب بين سنتي 1564 و1565 ميلادية.

وأيا يكن من الأمر فوجود هذه التحفة منذ حوالي خمسة قرون على الأقل يشي بالكثير، ويحكي كجدة طاعنة في السن، عن منزلةٍ رفيعة كان العلم وأهله يحظيان بها في مغربٍ كان.

كنز معماري

تتألف المدرسة من 134 غرفة موزعة على طابقين، كانت مخصصة لإيواء “الطلبة” الذين يحجون إليها من كل فج عميق ومن مختلف أصقاع البلاد. الداخل إليها أول مرة لا ريب في أن يتوه بين ممراتها الضيقة، خُصوصا بسبب تشابه الغرف من حيث المساحة والشكل؛ لا مجال للطبقية أو التمييز في صفوف علماء الغد في مغرب الأمس.

بعد يوم دراسة وتحصيل متعب، يحين للطالب أن يمد رجليه ويستريح، ومساحة الغرفة بالكاد تكفي لذلك ولوضع القليل من المتاع؛ تخترقها نافذة صغيرة للتهوية مؤطرة بخشب العرعار النبيل وذات شباك من حديد.

بعد عبور رواق مربع الشكل تتلامس جدرانه الشرقية والغربية، مغطى بقبة من الجبس المحنوت بشكل مقرنص، طوله حوالي 20 مترا وعرضه متران ونصف، هو مدخل المدرسة، يمكن الوصول إلى فنائها (الصحن)؛ ساحة فسيحة ذات أرضية من الرخام الأبيض، ومحاطة من جوانبها الأربعة بالأبنية، لا يعتليها سوى عنان السماء.

الجدران المحيطة بها تتباين بين خشب العرعار والجبس، كلاهما منقوش ومزين بآيات من الذكر الحكيم وتخترقه نوافذ الغرف مانحة أصحابها مشهداً يسر الناظرين.

يتوسطها حوض بهي عمقه أزيد من متر وطوله 7 أمتار ونصف، كان يُستخدم كوسيلة للتبريد بالتبخر، وهو مزين بصنبورين متقابلين من النحاس على طول محور التناظر.

ومن المثير للدهشة أن الذين شيدوا المدرسة فكروا في كل شيء تقريبا لضمان راحة علماء الغد؛ فثمة فضاء بين الفناء ورواق الدخول يسمى “المعدة”، عبارة عن هيكل يُستخدم لتجميع المياه القادمة من الأنابيب وتوزيعها بمبدأ الجاذبية على شكل مخروطي.

وتوجد 3 أنواع من المعدات، معدة التوزيع التي تستقبل المياه مباشرة من ينبوع أو واد وتوزعها، ومعدة البديل التي تستخدم لتخفيف الضغط وتنظيف الشوائب، ومعدة الجمع التي تستخدم لجمع المياه من مصادر أخرى قبل توزيعها.

وبالإضافة إلى قاعة للصلاة وحوض للوضوء ومراحيض؛ في زمن لم يكن فيه الصرف الصحي من الآليات المنتشرة، يتألق الطابق العلوي بـ”ضواية” مربعة الشكل يتسلل منها النور إلى الداخل مانحاً المبنى ألقاً خاصاً ومضفيا على أجوائه وقارا استثنائياً.

دهشة السياح وغياب المغاربة

“حظيت بترميم من قبل مختصين في علوم التاريخ والآثار والهندسة وصناع تقليديين، أعادوا لها الاعتبار بنفس التقنيات المتوارثة التي شيدت بها أول مرة” تقول لافتة لوزارة الأوقاف.

أثناء جولتنا في المكان، أصخنا السمع لما يدور بين السياح بقدر ما تسمح به قدراتنا اللغوية، ألسن كثيرة لهجت بعبارات الدهشة والثناء، عربٌ وفرنسيون وإنجليز وإيطاليون وألمان… والأهم من الألسن كانت لغة الأجساد وتعابيرُ الوجوه، التي يسهل ترجمتها بسؤال إنكاري لا شك أنه اختلج النفوس وخطر بالأذهان: “أي عظمة حضارية وثقافية عرفها هذا البلد ذات يوم؟”.

بيد أن المؤسف ربما هو أن الذوق الذي يستطيب هذه العظمة الحضارية يكاد يندثر في صفوف أصحابها؛ فمن بين الزوار الكثر للغاية لدرجة تصادم الأجساد أيما مرة، يكاد المرء لا يعثر سوى على القليل من المغاربة. يبقى السؤال: هل الأمر متعلق باعتيادهم على مآثرهم لدرجة ما عادت تحرك في نفوسهم الدهشة اللازمة للإقبال عليها؟ أم أن ظروفهم الاجتماعية جعلت من زيارة المتاحف والآثار ترفا وبذخا لا قِبَل لهم به؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News