حوارات | مجتمع

هشام المكي: صعود “مجتمع الاستهلاك” يرفع الإقبال على “تفاهة الويب” ومنصات “مصممة أخلاقيا” ستحمي قيم المجتمع

مع ارتفاع استعمال شبكة “الأنترنت” وتزايد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بالمغرب، ازدهرت المحتويات التي توصف بـ”التافهة”، حيث أضحت هذه الأخيرة مصدرا للدخل والشهرة للكثير من الأشخاص. فالتفاهة في عصر “السوشل ميديا” باتت سلعة تخضع هي الأخرى لمنطق السوق، عبر نسب المشاهدات، على حساب قيم المجتمع ومبادئه وضوابطه.

ويرى الأستاذ والأكاديمي هشام المكي، الباحث المختص في الإعلام  وتكنولوجيا الاتصال والقيم، في حوار مع جريدة “مدار21″، أن خطورة هذه المحتويات “التافهة” تكمن في جعل الناس يعتقدون، من خلال نسب مشاهداتها العالية، أن الجميع يقبلها، وأن أفكارها ومضامينها المنافية للقيم، هي الاتجاه السائد.

ويؤكد المكي أن تنامي ظاهرة “تفاهة الويب” ساهمت فيه عدة عوامل، في ظل صعود ما يسمى بـ”مجتمع الاستهلاك”، مقترحا مجموعة من الإجراءات والتدابير العملية الكفيلة بالقضاء عليها، واكتساب الأفراد “مناعة” ضدها.

وفي ما يلي نص الحوار:

بداية، هل هذا النوع من المحتوى في نظركم يؤثر في قيم المجتمع؟

المحتويات التي توصف بـ”التافهة”، تؤثر في قيم المجتمع ويحتاج إثبات ذلك ومعرفة كيفياته إلى دراسة علمية. لكن ليؤثر محتوى ما في قيم المجتمع عليه أن يكون أولا جماهيريا، بمعنى أنه يُستهلك من قبل فئة كثيرة من المجتمع، وثانيا أن يكون خطابه مؤثرا ومقنعا.

وبخصوص النقطة الأولى، فمعروف أن الجماهير تنتمي إلى الثقافة البسيطة، أو الثقافة الشعبية، بمعناها السلبي، وبالتالي نسب المشاهدات التي تحظى بها المحتويات الترفيهية، أو المصطلح عليها بـ”التافهة” تكون كبيرة.

أما في ما يتعلق بالقدرة على التأثير، فهذه تحتاج إلى دراسة متأنية، لكن عموما ينبغي لنا أن نعترف بأن هذه المحتويات تعكس قناعات معينة عند الجمهور، الذي يحتاج معظمه إلى التسلية بشتى الطرق، كما توفر أيضا للجمهور إشباعات عديدة، مثل إشباع الرغبات الجنسية عن طريق فيديوهات “روتيني اليومي” مثلا.

وتكمن الخطورة في هاته الفيديوهات في جعل الناس يتوهمون بأن ما يروج فيها من أفكار ومضامين منافية للقيم هو اتجاه سائدٍ، بعدما كانت السلوكات والأفكار الشاذة تُشعر متبنيها بنوع من الحرج تجاه المجتمع، ما يجعله لا يُفصح عنها ويكون أمام إكراه اجتماعي بالتزام القواعد. لكن، حينما ندخل الآن إلى محتوى يحظى بنسب متابعة كبيرة فهذا يجعلك تعتقد أن الجميع يقبل بها. وبالتالي يمكن القول إنها فعلا تؤثر سلبا في قيم المجتمع من خلال التشجيع على الكثير من السلوكات المنافية للأخلاق، وتساهم في خلخلة سلم القيم وأولوياته، ما قد يجعل للمال والشهرة أهمية أكثر من المبادئ، لذلك ينبغي الحذر من هذه المحتويات التي نحتاج إلى دراستها بشكل علمي.

ألا ترون أن الربح السريع وبمجهود أقل في الأنترنت “الويب” يشجع الأشخاص على الاستثمار في “التفاهة” دون مبالاة لقيم المجتمع؟

يمكن أن نميز بين نوعين من الأشخاص الذين يستثمرون في التفاهة على “الويب”، أي بين فئة تعي ما تفعل وتستثمر في “البوز” والإثارة وما يجذب الناس، إذ في سلم أولوياتها يأتي المال أولا، ولا تلتفت ما إذا كانت تسيء إلى بعض قيم المجتمع. وفئة من الأشخاص البسطاء الذين ينتمون إلى ما يصطلح عليه بالثقافة الشعبية ويتربحون من “الويب” مثل “روتيني اليومي”، إذ في هاته الحالة تصبح مسألة القيم والأخلاق فردية، بمعنى أن الشخص يدفع حياءه وسمعته وكماله الأخلاقي والشخصي مقابل الربح السريع، فتجد المرأة على سبيل المثال تعرض مفاتنها الجسدية في فيديو “روتيني اليومي” ولا تهتم لسمعتها.

ولا يمكن أن نقر بأن هناك هدما ممنهجا لقيم المجتمع أكثر منه اهتماما بالتربح، وهناك العديد من المهن خارج “الأنترنت” لا تهتم بالقيم، وتجري وراء كسب المال. وأنا شخصيا لا أدعم “نظرية المؤامرة” هاته، لكن بالفعل لدينا حالتان؛ الأولى تكمن في الجهات التي تعي ماذا تفعل ولا تهتم عامة بما تنشر وتروجه من آثار سلبية على المجتمع وقيمه وأخلاقه ورموزه وقدوته، وثمة فئات أخرى تضحي بسمعتها الشخصية وأخلاقها الفردية مقابل التربح.

يقال إن “الفراغ الثقافي” القائم يساهم في تنامي هذه الظاهرة، ما تعليقكم على هذه الفرضية؟

لا يمكن أن نعزو انتشار هذه الظاهرة إلى سبب واحد دون باقي الأسباب، فالمفكر البولندي زيغمونت باومان، على سبيل المثال، حينما لاحظ أن الإفراط في استخدام تكنولوجيا الاتصال يُضعف الروابط الاجتماعية أشار إلى نقطة مهمة تفيد بأن وسائل التكنولوجيا جاءت أصلا بعد ضعف العلاقات والروابط الاجتماعية لعوامل متعددة، وهي أدت فقط إلى إضعافها أكثر، والأمر نفسه الآن مع انتشار هذه التفاهة في “الويب”، الذي لا يعد هو السبب الرئيس في تنامي هذه الظاهرة، أو الفراغ الثقافي وحده السبب، إذ هناك الكثير من التغيرات التي طالت المجتمعات على المستوى الدولي.

على سبيل المثال الناس أصبحوا يستهلكون الجاهز والسريع، ولم يعد أحد يصبر على قراءة المقالات الفكرية الطويلة نسبيا، وتدوينات الفيسبوك نفسها إذا تعدت بضعة أسطر تجعل القارئ ينفر منها.

وهناك نوع من العادات اليومية نألفها ونعيش من خلالها، وهي ما يمكن أن نجمله في عصر السرعة الذي أصبح اليوم مضغوطا بمهام كثيرة وسريعة، إذ أصبحنا نفقد القدرة على الصبر وعلى التأني وأصبحت الأمور الثقافية إلى حد ما تفقد بريقها مع نهاية عصر الإديولوجيات والاستقطابات الدولية الكبرى، فحتى الأفكار فقدت بريقها الذي كان في السابق، والمقولات الفلسفية الكبرى تراجعت حتى على مستوى الإنتاج الفلسفي. ثمة صعود ما يسمى بـ”مجتمع الاستهلاك” الذي يقوم على المتعة الفردية وقيم جديدة مثلت بيئة خصبة لاستقبال مثل هاته المحتويات التافهة.

وهل غياب برامج تعنى بالأطفال والمراهقين في الإعلام المغربي يساهم في انتشار هذه الظاهرة؟

النمو السليم للأطفال والمراهقين ينبغي أن يتضمن أنشطة اجتماعية وأنشطة لعب كثيفة في الحياة الواقعية، وقد يخطئ الكثير من الآباء والأمهات حينما يضعون بين أيدي أطفالهم هواتف ذكية في سن مبكرة من أعمارهم، فينمو ذلك الطفل مدمنا على استخدام تكنولوجيا الاتصال وبعد سنوات تجده منطويا ومنغلقا على ذاته وكسولا اجتماعيا.

يجب التحلي بالصبر في تربية الأبناء وتحمل صراخهم وعبثهم، وبالتالي كلما جنبناهم اكتشاف التكنولوجيا في سن مبكرة كان أفضل لهم، إضافة إلى محاولة دمج الأطفال في بيئة اجتماعية.

طبعا برامج الأطفال مفيدة للغاية في رفع وعيهم، ونحتاج أيضا إلى محتويات رقمية ملائمة للأطفال. حينما تمنح طفلك هاتفا ذكيا ويدخل إلى “اليوتيوب” يجد الكثير من الأشخاص الذين يستثمرون في التفاهة الموجهة حصرا إلى الأطفال، وبحكم اشتغالاتي البحثية أعرف مثل هاته المحتويات التي تكون تافهة جدا، ويقبل عليها الأطفال بكثافة.

هناك نسخ عربية ومغربية لفيديوهات أمريكية جماهيرية موجهة للأطفال، وتؤثر فيهم سلبا، وتساهم في تنشئتهم على قيم مبادئ هشة، لا نريد أن تكون جزءا من منظومة أطفالنا القيمية، لذلك ينبغي أيضا أن نستثمر في إنتاج محتويات في “الويب” صالحة للأطفال، تربوية، وتعليمية وترفيهية، والإعلام عموما يجب أن يجمع بين الإفادة ويستثمر كثيرا في المتعة، لأن المنافسة قائمة بين محتويات مسلية وجاذبة وتافهة، ومحتويات جيدة قليلة، لكنها تكون في كثير من الأحيان جافة تنفر الأطفال.

وغياب البرامج الإعلامية الموجهة إلى الأطفال يساهم في بروز هذه الظاهرة، إلى جانب غياب ملاعب أحياء وملاعب قرب حقيقية تمكن الأطفال من الإندماج واللعب والحركة، وغياب الاستثمار من المراكز البحثية والمختصة في إنتاج مضامين “الويب” الملائمة للأطفال، ناهيك عن غياب ثقافة حقيقية للآباء والأمهات توعيهم بضوابط استخدام “الأنترنت”.

هذه الظاهرة مركبة، والآن نحن أمام تنامي الوعي بشأنها، ونأمل أن يكون هذا الوعي إيجابيا في سبيل إدراج التربية الإعلامية والرقمية في مناهجنا التعليمية بداية، وأيضا سن قوانين وقواعد حمائية واضحة تضمن للناس قدرا معقولا من حرية التعبير في استخدامات الأنترنت، لكنها تحمي في الوقت نفسه قيم المجتمع وثقافته وتحمي من الاستغلال السيء وتنشر الوعي في صفوف الأمهات والآباء لحماية أبنائهم من مخاطر الأنترنت.

العصر المقبل هو عصر الثورة الرقمية وتكنولوجيا الاتصال، ونحتاج إلى تربية جيل من الأطفال والشباب يحسن التقاط ثمار هاته الثورة الرقمية ويحسن استثمارها في تطوير قدراته في صناعة مستقبله، بدل من أن تكون هذه الثورة الرقمية مجرد منتوج للترفيه والتأثير سلبا على دراسته وتحصيله.

في ظل ارتفاع أسهم هذه الظاهرة، هل التربية الإعلامية الرقمية كفيلة بأن تخفض -أو تقضي- على “تفاهة الويب”؟

التربية الإعلامية والرقمية مهمة للغاية، مع الأسف تجد أن الكثير من دول العالم التي أدرجتها في مناهجها التعليمية منذ سنوات طوال، فيما زلنا في العالم العربي نحاول إلى الآن إثبات أهميتها. وهي طبعا مفيدة للغاية، لأنها تمكن الناس من القدرة على الاستهلاك النقدي للمضامين الإعلامية وحتى أولئك الذين يُنتجون مثل هاته المحتويات، إذا تلقوا تكوينا وتعليما في هذا المجال، قد نجد جزءا كبيرا منهم ما كان ليتجه إلى صناعة هذا النوع من المحتويات والإنتاجات بقدر بسيط من الثقافة الإعلامية والرقمية، لهذا أجد أنه من المهم إدراجها في المناهج التعليمية.

وفي انتظار ذلك، نأمل أن يتولى المجتمع المدني هذه المهمة من خلال التربية والتحسيس على إنتاج برامج تلفزيونية موجهة للترويج عبر “الويب” في هذا الاتجاه. إذا نجحنا في تسويق ثقافة إعلامية أو تربية إعلامية ورقمية جيدة، سنحد بشكل كبير من انتشار هاته الظاهرة وآثارها السلبية وطريقة تلقيها من قبل فئات المجتمع.

أخيرا، ماذا تقترحون في سبيل التصدي لهذه الظاهرة؟

من أهم الأسباب التي أنتجت هذه الظاهرة عدم وجود قواعد أخلاقية وقانونية واضحة تنظم سلوكنا على “الأنترنت”، فهذا الغياب هو غياب “متعمد” من قبل الفاعلين الكبار في “الأنترنت”، لأن عدم وجود قواعد يؤدي إلى استخدامات أكبر وتربح أكثر على المستوى التجاري.

لهذا ما ينبغي النضال بشأنه هو فرض قواعد حمائية، وهذه ليست بالمهمة البسيطة، لأن الفاعلين الكبار يوجدون خارج نطاق البلد المتضرر، كل الشركات الكبرى هي في الغالب أمريكية، مسجلة في الولايات الأمريكية، لكن تأثيرها السلبي يشمل جميع بقاع العالم، وبالتالي على المنظمات الدولية، وبلدان العالم بما فيها المغرب أن تناضل في سبيل الضغط لفرض قوانين تحمي الناس. وأيضا الدولة لها دور آخر يكمن في حجب الكثير من المواقع والتطبيقات التي يتضرر منها أفراد المجتمع، إذ لها الصلاحية القانونية والقدرة التقنية لفعل ذلك.

من الاقتراحات أيضا، الاجتهاد القانوني والقضائي في هذا المجال، ناقشت الأمر مع بعض الأساتذة في مجال القانون والقضاء وهم يعون خطورة هذه القضية ويحاولون الاجتهاد في هذا المجال، لأنها ظاهرة متحولة، ففي كل يوم هناك اعتداءات جديدة وعالم يتحول تدريجيا فنحتاج إلى بحث قانوني وقضائي يواكب هاته المتغيرات.

من أجل حماية الناس نحتاج إلى قوانين زجرية تضبط وجودنا على “الأنترنت”، طبعا أنا ضد التضييق على حريات الناس وقدرتهم على التعبير، لكن، في المقابل، هناك قيم جماعية ينبغي احترامها وثمة ضوابط معينة، لا ينبغي أن ينشر كل شيء، إذ أصبحنا نرى أن كل شيء يُنشر من حميميات الحياة الخاصة إلى الأسرار المهنية وصولا إلى صور الأقرباء الموتى على أسرة المستشفيات… كل شيء أصبح يسوُق في “الويب”.

وأنبه أيضا إلى دور المجتمع المدني، إذ هناك بعض القضايا المرتبطة بهذا المجال هي غير تقليدية، وبالتالي الرهان على المنافذ القانونية التقليدية من الأحزاب والبرلمان بطيء للغاية، لذلك نحتاج إلى مجتمع مدني يقظ يحرك مثل هاته القضايا ويبرزها إلى مجال الاهتمام العام، ونحتاج كذلك إلى إعلام يحرك هذه القضايا لمساعدة الفاعل السياسي والعموم على اتخاذ إجراءات ملائمة.

واقترحت في دراسة أن نعتمد منصات التواصل الاجتماعي مصممة أخلاقيا، بحيث طريقة تصميمها تنتج عنها استخدامات آمنة ومفيدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *