انتشار الإسلام في إفريقيا على لسان مستشرقين غربيين (2/3)

2- فنسأن مونتاي وكتابه (الإسلام في إفريقيا السوداء)
-الإسلام وتكيفه مع “الزنوجة” الإفريقية
(الإسلام في إفريقيا السوداء) كتاب قيم لفنسان مونتاي ويعتبر من اهم الكتب التي تقدم صورة مغايرة عن الإسلام في واقع مغاير. ترجم الى اللغة العربية عام 1964 ويستمد اهميته من كونه يعرض صورة عن الإسلام المتكيف مع الواقع الافريقي المتنوع والمتفاعل مع حضارة جديدة عرفت بتنوع تقاليدها وحيويتها وصلابتها. وهو كتاب يقدمه العديد من الدارسين والباحثين على أنه يملك خاصية تعددية، فهو لا يقتصر على السرد التاريخي ولا على الاستدلال الوثائقي، ولا يغوص في القراءة الايديولوجية أو في تقديم الصور الغرائبية أو القراءة الأنتروبولوجية بل يقوم على كل هذا وذاك وكل ما هو موجود وحي ومعاش مستعينا بمنهجية وادوات الباحث الأنثروبولوجي. أنه كتاب ثري يجمع ما يكفي من المعطيات والحقائق التاريخية والاجتماعية والمصادر الثقافية والتجارب الإنسانية المباشرة ليستخلص منها نظاما للثقافة الشاملة وكيفية تمثل الإنسان لنفسه والعالم المحيط به.
ولقد حرص الكاتب على أن يقدم صورة حية عن الإسلام “الإفريقي” وطريقة انتشاره وامتداده بين افراد وجموع القبائل الإفريقية، أو بين زعمائها وملوكها وسلاطينها.. فهو يراه إسلاما متعددا ومتنوعا وصوره كيف يتعايش وكيف يمارس في الصحراء الكبرى وفي أدغال غابات إفريقيا السوداء وفي رحاب القصور وأجواء البيوت ودهاليز الكهوف حتى أنه أكد أن الإسلام أنتشر بقوة في أوساط الوثنيين بل وفي أوساط المسيحيين كذلك. واشار (فنسان مونتاي) أن هذا لا يعني أن الإسلام دخل إفريقيا السوداء بدون أن يواجه بنفور أو معاكسة أو حتى معارضة مسلحة. وأورد في رواية عن رحلاته وجولاته أن (قرية مسلمة بكاملها أخبره اهلها أنه قبل ثلاثين سنة – حوالي 1930- كأن المقعد الذي يجلس عليه المسافر المسلم يحرق بعد رحيله).
ولإظهار صعوبة أنتشار هذا الدين الجديد في منطقة الغرب الافريقي اثار المؤلف قضية “الزنوجة” وبين كيف تعامل معها المسلمون، وكيف قبل الافارقة الزنوج الدخول الى الإسلام دون التفريط في “زنوجيتهم” مستعينا في ذلك بمنهج جاك بيرك القائم على تأطير الواقع الاجتماعي مستعينا بالسيسيولوجيا والتنقيب داخل عمق التاريخ، حيث الثقافة والتراث الإنساني المتناقل جيلا بعد جيل يساهم في تشكيل الشخصية الفردية والاجتماعية وتتصدره الاجناس الادبية القديمة مثل الاسطورة والحكاية والامثال والنصوص الحكمية وهي كلها اجناس اشبه بسجل لحكمة الامم.
ومن حيث المعتقدات المزاولة من قبل الافارقة غالبا ما يعترف الأفارقة أنفسهم سواء أكانوا مسلمين ام مسيحيين بأن الاساس الديني في إفريقيا هو الاحيائية حيث يرى الاحيائيون (أنه إذا كأن كل شيء فيه قوة ونسمة حية فالحياة موجودة في كل شيء) كما أن فكرة (الانبعاث بعد الموت) هو معتقد شامل لدى الجميع بل هناك من القبائل والطوائف الدينية الإفريقية من يعتقد أن أناسا ينتحرون (ليولدوا من جديد) كما أن كلمة (دين) تعني عند بعضهم (الطريق).
ظاهرة الزنوجة هي ظاهرة وفكرة مستبدة بالثقافة الإفريقية و”بالروح الإفريقية” عرفها أحد أعظم كتابها وشعرائها الرئيس السينغالي الراحل ليو بولد سيدار سنغور بأنها الروح الجماعية للإنسان الإفريقي وأنه كما أورد الكاتب يحذرنا أن نربط “الزنوجة” (بالتعقلية وليس بالعقلانية أو بالعقل … أن الزنوجة– في رأيه – هي الحضارة الإفريقية كما عرفناها من الأنتروبولوجيين اي موهبة الانفعال والتعاطف، موهبة الايقاع والشكل، موهبة الصورة والاسطورة، والروح الجماعية والديموقراطية الإفريقية).
“الزنوجة” اجمالا كما يقول هي (عودة الى الينابيع مصحوبة بحذر من العقل الاستدلالي) غير أن هذا الرأي والاعتقاد لم يلقى تجاوبا لذى كثير من المفكرين الافارقة ولا حتى من طرف ساستهم وزعمائهم لأنه شعور عاطفي أكثر منه قانون للحياة والاستمرار و”الزنوجة” اذا تم حصرها في هذا التصور العاطفي قد تؤدي في نهاية المطاف الى قيام عرقية سوداء في مقابل عرقية بيضاء واي عرقية منهما ليست أفضل من الأخرى؟؟
مفهوم “الزنوجة” دفع البعض الى اعطاء الإسلام “لونه” الخاص في إفريقيا السوداء وأن كانت عبارة الإسلام “الأسود” لا تقع موقعا حسنا لدى المؤمنين في إفريقيا لأن الإسلام لا يميز بين الألوان البشرية مادام البشر من أصل واحد (كلكم لأدم وادم من تراب) الا أن هناك من حرك هذا (التلوين العرقي) والبسه لباس الدين. وقد قال ج.س فروليخ (هناك اسلام اسود متميز يختلف اختلافا كبيرا عن الإسلام المتوسطي وعن اسلام الشرق الادنى ..أن إسلام إفريقيا اسلام “مزنج” تم تكييفه حسب مقتضيات الخصائص النفسية للأعراف السوداء). غير أن الكاتب يرى أن مثل هذا الراي سواء أكان دقيقا ام لا فمما لا شك فيه أن الإسلام تفاعل مع العادات المحلية وتلون بلونها أحيانا وأضفى لونها بلونه أحيانا اخرى ولا غرابة في ذلك لأن الإسلام أبدى في كل منطقة دخلها من العالم عن مرونة كبيرة وعن قدرة بالغة على التكيف والتكييف.
ومن الأمثلة الحية على هذا التفاعل بين الإسلام وخصائص القارة السوداء ما يسميه المؤلف بـ(التعايش الاحيائي –الإسلامي):
1- هناك مسلمون من (الديولا) يشاركون في أعياد للإحيائيين (فيذهبون الى الغابات المقدسة ويقدمون القرابين امام الاصنام).
2- هناك قبائل إفريقية من غير المسلمين في شمال نيجيريا إذا أرادوا التخلص من إنسان مؤذ وعنيف ذبحوا ديكا وهم يتلون عليه (سورة يس).
هكذا يرى الكاتب أنه تضافرت العقلية الإسلامية والروح الزنجية المحلية فولدت صيغا ونماذج لسياسة الحكم فها هم (السلدياب) مثلا من (الفوتا) يعينون الرئيس الروحي ويدعونه (المامي) أي الإمام وحين توضع عمامة الامامة على راسه يلقي خطبة الحكم على النحو التالي ( الحمد لله، شكرا لله، أن ما وضعتموه بين يدي هو قسمة الأجداد وأنا سأعيد لكل واحد قسمته) تم يتوجه الى ممثل الجماعة بالقول (أن لنا الآن خليفة الأمة نأتمنه على ديننا وعلى الفقراء والمسافرين والشيوخ وعليه أن لا يترك خطأ يمر بلا عقاب من أي جهة أتى أن– فوتا- على رأسك كوعاء حليب طازج حذار الانزلاق لئلا يراق الحليب).
وعلى مستوى الحياة الاجتماعية والعملية فقد حد انتشار الإسلام من تناول المشروبات الكحولية واستهلاك النباتات المخدرة والمنبهة وشجع الإسلام بالمقابل على انتشار زراعة القطن لأن (الأخلاق الإسلامية تفرض الحشمة على مستوى المظهر الخارجي).
وفي مجال حقوق المرأة كأن هناك جواز تعدد الزوجات بلا حدود وحرية تطليق المرأة متى شاء وكيف شاء لكن الإسلام رد الاعتبار للمرأة التي كأنت تدعى لدى (البيل) مثلا بـ(كلبة الادغال) من نفس المصدر.
أن التأثير الإسلامي جعل نفوس الافارقة تتقبل العمل الزراعي بعدما كانوا يحتقرونه وينفرون منه حتى أصبحنا نقرا في إحدى القصائد البيلية (أن رائحة عرق الفلاحين من القيمة ما لرائحة أفواه الصائمين) من نفس المصدر.
وبخصوص (العبودية) يلاحظ المؤلف (فنسان مونتاي) أن المسلمين السود لم يتوانوا عن استعباد أفارقة آخرين غير مسلمين ومسلمين أحيانا وذكر أن (التجار العرب اشتهروا أكثر من غيرهم بغزواتهم عبر القارة السوداء طوال قرون لكن هناك من السود المسلمين من يبدي حذرا شديدا من كل ما من شأنه أن يستغل الإسلام لكي يفرض عليهم وضعا مجحفا)
أما العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في إفريقيا السوداء فيرى المؤلف أنها رهن بالتوجهات المبدئية لكل إنسان كما في أي مكان آخر وقدم أمثلة حية على التعاون المسيحي–الإسلامي من قبيل قيام ليو بولد سنغور رئيس جمهورية السنيغال السابق الكاثوليكي بتدشين المسجد المريدي الكبير في طوبا قائلا (سنصلي معا مسلمين ومسيحيين).
ويؤكد المؤلف أنه لا يبدو في إفريقيا السوداء صراع طاغ بين الإسلام والمسيحية بل كلاهما نظام شامل ولكنهما مختلفان في الطبع وهو ما لم يحل دون أن ينتمي بعض المسلمين وبعض الدول ذات الأغلبية المسلمة إلى الماركسية والإسلام في أن واحد.
وأشار الكاتب إلى أن بعض الأنظمة المتباينة استعانت بالإسلام لكي تدعم وترسخ “الأصالة” الإفريقية.