ثقافة

صراع على “قرطبة”.. الأسقفية تريد إبراز “التراث المسيحي” في الكاتدرائية-الجامع ونشطاء ينتقدون

صراع على “قرطبة”.. الأسقفية تريد إبراز “التراث المسيحي” في الكاتدرائية-الجامع ونشطاء ينتقدون

بعد حملة طويلة من قبل الكنيسة الكاثوليكية في قرطبة تهدف إلى “تصحيح” ما تعتبره رؤية إسلامية مفرطة لماضي المدينة، تسعى الكنيسة لتقليص حضور التراث الإسلامي في المنظور التاريخي والسياحي لجامع-كاتدرائية قرطبة، وذلك بعد أن اعترفت الحكومة الإسبانية رسميا، في فبراير الماضي، بتبعية المبنى التاريخي للكنيسة، لتحسم الجدل الطويل بين المؤرخين والنشطاء والكنيسة.

تسعى الكنيسة للاعتراف بالمبنى في المقام الأول كأثر ونصب تذكاري مسيحي، وجاءت الخطوة الأخيرة في هذه الحملة مؤخرا مع تسريب صحيفة البايس الإسبانية (El País) تقريرا لأسقف قرطبة ديميتريو فرنانديز غونزاليس دعا إلى “إعادة تصميم المساحة بأكملها” لمنطقة المسجد لضمان عدم اعتبار قرطبة “مدينة إسلامية”.

وانتقد التقرير الكنسي ما اعتبره “الاختزال الثقافي” الذي ساعد على “تجاوز الماضي المتألق ذي التأثير القوطي الغربي والروماني والمسيحي”، بينما وصفت الصحيفة الإسبانية التقرير بأنه “هجوم ضد التأثير الإسلامي الواضح وغير القابل للجدل للمجموعة الأثرية بأكملها”.

ولا تبدو تلك الجهود جديدة من نوعها، ففي القرن السادس عشر، عندما بنى أسقف قرطبة صحن الكنيسة وجناحا في وسطها، علق كارلوس الأول ملك إيطاليا وإسبانيا وأرشيدوق النمسا ورأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة “لقد بنيت هنا ما كان يمكن أن تبنيه أو أي شخص آخر في أي مكان آخر بديل؛ لكن للقيام بذلك دمرت معلما فريدا في العالم”.

وكان مجمع قرطبة هجينا معماريا رائعا، يدمج القيم الفنية للشرق والغرب، ويتبنى التقنيات الرومانية والقوطية، ويتضمن عناصر لم تكن معروفة سابقا في العمارة الدينية الإسلامية مثل استخدام الأقواس المزدوجة لدعم السقف ومزج الحجر بالطوب، ولم يكن بيتا دينيا فحسب، بل كان أيضا جامعة قرطبة، أحد أعظم مراكز التعلم في العالم، بحسب مقال كنان مالك لصحيفة “غارديان” (The Guardian) البريطانية.

وقال خوسيه ميغيل بويرتا، أستاذ تاريخ الفن بجامعة غرناطة، لصحيفة البايس الإسبانية “من الجيد تقدير وإبراز الماضي اليهودي أو المسيحي في قرطبة والمسجد، ولكن ليس على حساب إخفاء التراث الإسلامي. الأمر الذي لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه، لأنه انعكاس لأعظم لحظة في روعة المدينة”.

وبحسب الصحيفة الإسبانية ليست هذه المرة الأولى التي تحاول فيها الأسقفية التقليل من أهمية المسجد وتأثيره الإسلامي، ففي عام 2017، قدم الأسقف في مقابلة تحليلا لحالة الثقافة في قرطبة، وقال فرنانديز “في الواقع، لم يكن للخلفاء الأمويين معماريون خاصون بهم ولم يبتدعوا فنا جديدا، إنه ليس فنا إسلاميا. ذهبوا من دمشق وأخذوا أبناء وطنهم المسيحيين إلى قرطبة. لكن الفن ليس إسلاميا. إنه بيزنطي”. وأضاف الأسقف عن عمارة قرطبة “إنها مسيحية بيزنطية، المور (تسمية تحقيرية تشير إلى مزيج العرب والأمازيغ والأوروبيين بعد فتح الأندلس) فقط استثمروا المال”.

وعلق بويرتا قائلا للصحيفة “عليك معالجة هذه الجوانب من وجهة نظر الإنسانية جمعاء، لكن إسكات الماضي يدل على عقدة نقص معينة”.

وختم الأكاديمي صاحب كتاب “مسجد قرطبة الأموي، قبة الإسلام في الأندلس” قائلا “رأى المسلمون الإسلام على أنه استمرار للمسيحية، وفي الشرق الأوسط، حيث نشأ الأمويون، توجد أفضل الأمثلة على المباني التي يتعايش فيها الفن المسيحي والإسلامي”، مشيرا إلى أن الجامع-الكاتدرائية مثال على ذلك التعايش بما يضمه من قطع رومانية وقوطية.

وفي عام 2015، أصدر 100 من العلماء والباحثين والخبراء من 36 جامعة في مختلف أنحاء العالم، ومؤرخون ومستعربون وباحثون في تاريخ العصور الوسطى، ومتخصصون في الفن من جامعات مشهورة في إسبانيا وخارجها، بيانا قالو فيه إن الأساس القانوني لتسجيل ملكية مسجد قرطبة باسم الأسقفية ضعيف جدا، ذلك أن الأمر الصادر في عام 1236 من قبل الملك الإسباني فرديناندو الثالث لا يمكن اعتباره هبة ملكية، بل هو إذن من الملك بحق الانتفاع والاستعمال وليس حق تملك.

واعتبر الموقعون أن أسقفية قرطبة تثير الجدل بشأن ملكية المسجد الذي أعلنته اليونسكو في عام 1984 تراثا عالميا. وطالبوا بإصلاح العناصر المعمارية المتدهورة وترجمة الكتابات العربية الموجودة بالمسجد، حيث عمدت الأسقفية إلى طبع عبارات اختفى منها أي ذكر لمسجد قرطبة، كما تحمل اللافتات في الموقع السياحي عبارة “الأسقفية ترحب بكم في الكنيسة الكاتدرائية”.

رائعة قرطبة

رغم تحوله إلى كنيسة عام 1236 عقب سقوط قرطبة، فإن موقع جامع قرطبة حافظ على طابعه المعماري رغم التوسعات والتجديدات التي لحقت به قبل وبعد تحوله لكاتدرائية مسيحية بالقرن الـ13، وكانت متسقة مع شكله الأصلي.

واستخدمت في البناء أعمدة رومانية بعضها كان موجودا بالفعل في المكان ذاته وبعضها تم إهداؤه من حكام المقاطعات الإيبيرية، واستخدم العاج والذهب والفضة والنحاس لتصميم الفسيفساء والزخارف، وتم ربط ألواح الأخشاب المعطرة بمسامير من الذهب، وتميز الموقع بأعمدة الرخام الأحمر.

تم بناء الجامع خلال قرنين ونصف القرن تقريبا، بدءا من عام 92 الهجري، في قرطبة العاصمة الأموية للأندلس، وتشارك المسلمون والمسيحيون في قرطبة بالمكان ذاته الذي كان بعضه جامعا والآخر كنيسة، لكن عبد الرحمن الداخل اشترى جزء الكنيسة وأضافه للجامع مقابل أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس وقت دخول الأندلس.

وعام 340 هجرية شرع عبد الرحمن الناصر في بناء مئذنة كبرى للمسجد الجامع، ولاحقا أضاف المنصور توسعة واهتم بالبناء. ولما سقطت قرطبة في أيدي القشتاليين سنة 1236 حولوا المسجد إلى كنيسة أسموها “سنتا ماريا الكبرى”. ومنذ ذلك الحين أخذ مظهر الجامع يتحول شيئا فشيئا إلى صورته الحالية، وأضاف إليه القشتاليون بعض الزيادات التي غيرت ملامحه لكنها لم تغير جوهر البناء.

لكن التغيير الأساسي حدث سنة 1523 ميلادية حين هدمت أسقفية قرطبة جزءا كبيرا من توسعة عبد الرحمن الأوسط، وبنت كاتدرائية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News