الإسراء والمعراج معجزة ضرورية يفهمها العقل المؤمن

حاولت أن لا أشتبك مع هؤلاء الذين ينفون المعراج عن النبي صلى الله وعليه وسلم ليقيني التام أن لا فائدة من ذلك، فأنا أعرف أنهم لا ينطلقون من رأي تسهل مجادلتهم فيه، وإنما هم صادرون عن عقيدة يصعب عليهم التخلي عنها مهما اجتهدنا في بسط البراهين لهم.
ولكن النقاش تشعب بالأمة العربية، وصار ذا شجون، فصار لزاما أن ندخل غماره، وأن نتناوله من زوايا نعتقد أنها جديدة وأصيلة. ربما لاينتبه هؤلاء المشككون أن الأمر يتعلق بالنسبة للمسلمين بمعجزة من معجزات الرسول (صلعم). إي إن الواقعة تتجاوز منطق العقل لتخاطب حاسة الإيمان. ففي الإسراء والمعراج نحن في حضرة المعجزة التي تتهاوى أمامها أبعاد الزمان والمكان، الواقعة تبطل مفهومهم الدارويني للإنسان المفارق بطبيعته البشرية للعالم الطبيعي المعانق للعالم الماورائي الميتافيزيقي.
الإسراء والمعراج هي حالة من التماس بين العالمين لا تتاح إلا لنبي عظيم. هذا التماس الذي كان عليهم كعلماء أن يلتقطوه لمزيد من تأصيل المعرفة بهذا الإنسان الذي يدّعون الدفاع عنه لو كانوا فعلا يعقلون، لكنهم يصرون على أن يناقشوا الإسراء والمعراج تحت وابل صقيع العلم الجاف البارد المتقلب غير متدثرين بدفئ الإيمان كما لو أن الرسول الكريم (صلعم) كان شخصا عاديا، لا نبيا مرسلا من قبل مبدع الكون بل وخاتم النبيئين والرسل. إن العلماء الآن يقولون بأن السفر في الماضي وفي المستقبل أمران ممكنان نظريا على الأقل.
لقد شكل محمد (صلعم) نهاية اتصال السماء بالأرض، ولكنه كان بداية لتحقق معجزات أخرى عن طريق العلم. فالعلماء ورثة الأنبياء.
يطبل لفيف التنويريين كل التطبيل للمنجزات العلمية حتى حينما تبدو أقرب للسحر. فهل يقبلون من المخلوق ما يبخلون بقبوله على الخالق؟ ألا ساء ما يحكمون.
هذه القدرة على تعويد عقولهم على التفكير في نطاق المعجزة هو ما يعوزهم ويدل على فساد منطقهم. إننا لا ندري هل يتوهمون أن الله سبحانه وتعالى ونبيه الأمين كان عليهما أن يستشيرا هؤلاء المتنورين في طبيعة المعجزات التي يمكن أن تفحمهم.
لقد تابعت منذ زمن هؤلاء التنوريين واكتشفت أن التنوير بالنسبة لهم هو التشكيك في ما جاءت به الأديان أو إنكاره حسب درجة التقبل التي يتوقعونها من المجتمع. وقد لاحظت كذلك أنهم مع جميع الحريات إلا حرية التدين، بل هم يختصون الإسلام بطعناتهم من دون الأديان جميعها، واليهودية تحولت إلى عرقية، أما المسيحية فقد ابتلعتها العلمانية وصارت من ضمن الأشياء التي تقوم بتسليعها الفلسفة المادية، وحده الإسلام ما يقف من الناحية الفكرية سدا منيعا أمام الهجمة على الإنسان التي ينفذها هؤلاء الذين سطوا على مصطلح التنوير وحولوه إلى دين جديد له طقوسه العبثية والمجنونة المنافية للعقل.
إن هؤلاء التنويريين يحررون كل الغرائز إلا غريزة التدين التي يسعون إلى تسفيهها وكبحها رغم أنهم يلمسون حاجة الناس الملحة إلى الإيمان بخالق قوي قدير لأن هذا الإيمان يقويهم ويلهمهم الصبر على تجرّع مآسي هذه الحياة الثانية التي تصبح غير جديرة بالعيش إن لم تكن تليها حياة أخرى باقية.
لو كانوا تنويريين حقا لأدمجوا الهدف البعيد هو خلق حالة من الإحراج في العقيدة الإسلامية، فإذا تشبتنا بالإسراء والمعراج عددنا ضمن المتخلفين الخرافيين، وإذا أنكرنا معهم المعراج ستنبري، مع مرور الوقت، فئة منهم لتطرح سؤالا آخر. هل عدم القدرة على الإسراء والمعراج يستقيم مع صفات القدرة لدى الله سبحانه وتعالى؟.
إذن المرمى الذي يخالونه يخفى على الناس تعريفه تناقضاتهم ويفضحه قصورهم العقلي الذي يزين لهم السير قدما وبكل بلادة وغباء في طريق تطبيق بنود العلمانية الأصولية المتطرفة التي تسعى لفصل المخلوق عن الخالق.
الإسلام دين محكم، فهو خاتم الرسالات، والإسراء والمعراج تأكيد ما بعده تأكيد على البعد الروحاني النوراني في طبيعة الإنسان، حيث يسعى الرسول الخاتم إلى السماء سدرة المنتهى ليأتي بشعيرة الصلاة، ويلتقي خلال هذه الرحلة بالأنبياء والرسل، كأنه يجمع في رحلة واحدة كل الرسالات السابقة في دين الإسلام ويحصل على التأييد والتفويض والمباركة من الرسل السابقين ..
إنها الشرعية الرسالية المنبثقة من لدن الله تعالى التي يصدق عليها أنبياؤه ورسله حين يؤم رسولنا الكريم كل الأنبياء. وإنها لوحدة الدين الإلهي الذي يكتمل في الإسلام كدين وشريعة نهائية جاءت على يد رسول بعث للعالمين .
لولا هذه الرحلة المباركة لما كان الإسلام في نظري خاتم الرسالات والأديان، ولما كان الدين عند الله الإسلام. وبهذا يكون الإسراء والمعراج معجزة ضرورية يتطلبهما العقل؛ العقل المؤمن بطبيعة الحال.