رأي

الحماية الجنائية للتراث بين القانون 33.22 الحديث واجتهاد محكمة النقض

الحماية الجنائية للتراث بين القانون 33.22 الحديث واجتهاد محكمة النقض

صدر مؤخرا القانون رقم 33.22 المتعلق بحماية التراث بالجريدة الرسمية عدد 7415 بتاريخ 23 يونيو 2025، المنفذ بموجب الظهير الشريف رقم 1.25.48 بتاريخ 9 ذي الحجة 1446 (6 يونيو 2025)، والذي يعد نقلة نوعية في حماية التراث الثقافي والطبيعي والجيولوجي للمملكة المغربية. يأتي هذا القانون لتعزيز الإطار القانوني لحماية التراث، مع التركيز على الجانب الجنائي لردع أي انتهاكات قد تمس بهذا الإرث الوطني.

ويشكل هذا القانون تحولا بارزا في السياسة التشريعية المغربية الرامية إلى صيانة الموروث الثقافي والطبيعي والجيولوجي للمملكة. فقد جاء هذا القانون استجابة لحاجة وطنية ملحة إلى تجديد الإطار القانوني المنظم للتراث، بما يتلاءم مع التحولات الدولية في مفهوم الحماية الثقافية، ويعكس التزام المغرب بمقتضيات الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وعلى رأسها اتفاقيتي اليونسكو لسنتي 1972 و2003. ومن خلال قراءة متأنية لهذا النص، يتبين أنه لا يقتصر على منح حماية تقنية لعناصر التراث، بل يسعى إلى ترسيخ تصور شمولي يدمج البعد الرمزي والتاريخي والجمالي في قلب المشروع التنموي والحفاظ على الهوية المغربية.

لقد توسع نطاق التراث المشمول بالحماية ليشمل أنواعا متعددة، تتراوح بين التراث الثقافي المادي، سواء أكان عقارا أو منقولا أو مغمورا بالمياه، والتراث الثقافي غير المادي الذي يتجلى في الطقوس والتقاليد والمهارات والمعارف الشفهية، بالإضافة إلى التراث الطبيعي وما يحويه من مواقع بيئية ومعالم طبيعية ذات قيمة علمية أو جمالية، ثم التراث الجيولوجي الذي أصبح له مكانة خاصة داخل النص التشريعي الجديد. ويستخلص من هذا الشمول أن المشرع لم يكتف بالتقليد القانوني الفرنسي أو التجارب العربية المحيطة، بل حاول إدماج المقتضيات المتقدمة للفقه الدولي في مجال حماية التراث، وجعلها منسجمة مع السياق المغربي بتعدديته الثقافية والجغرافية.

من حيث آليات الحماية، يعتمد القانون على منظومة قانونية دقيقة تتوزع بين التقييد في السجل الوطني لجرد التراث والترتيب في عداد التراث، وهي آليات تؤطرها مساطر واضحة تبدأ بإشعار السلطات المختصة وتمر عبر دراسة الملفات من قبل لجنة وطنية للتراث، قبل اتخاذ مقررات إدارية قابلة للتسجيل أو التعليق في الرسوم العقارية، حسب الحالة. وتترتب عن هذه الإجراءات آثار قانونية ملزمة، حيث تصبح العناصر المقيدة أو المرتبة محمية من كل أشكال التصرف الحر التي قد تهددها، ويمنع الإتلاف أو التشويه أو الهدم أو الإخراج من التراب الوطني دون ترخيص. كما يلزم الملاك، سواء كانوا أشخاصا ذاتيين أو معنويين، بصيانة ممتلكاتهم والحفاظ عليها، مع منحهم بالمقابل إمكانيات الاستفادة من الدعم المالي والتقني.

ما يميز القانون 33.22 هو إقراره بمبدأ “الحماية التشاركية”، حيث لا تناط مسؤولية حماية التراث بالدولة وحدها، بل يشرك في ذلك مختلف الفاعلين من إدارات، وجماعات ترابية، وجمعيات، بل حتى الأفراد. وهذا التوجه يتجسد بشكل واضح في الإقرار الرسمي بصفة “الكنز الإنساني الحي” لكل شخص حامل لمعرفة تراثية متميزة، إذ يمنح القانون لهؤلاء وضعا قانونيا خاصا يتضمن الاعتراف، والتحفيز، والدعم، والتزاما في الآن ذاته بنقل المعارف للأجيال القادمة. وبهذا التصور، يتم الانتقال من منطق الحفظ السلبي للتراث إلى منطق “التراث الحي”، الذي يتجدد من خلال الناس والممارسة اليومية والذاكرة الجماعية.

إلى جانب البعد الوقائي وإقرارا لمبدأ الحماية التشاركية، تضمّن هذا القانون بعدًا زجريًا غير مسبوق، يعكس رغبة المشرّع في كبح الانتهاكات المتزايدة التي تطال مكونات التراث الوطني. فقد تم التنصيص على منع كل أشكال التخريب أو الإهمال أو البيع غير المشروع أو التصدير دون ترخيص، مع إبطال كل تفويت يتم بالمخالفة للإجراءات القانونية. كما تم تقييد إمكانية إجراء الأشغال أو التعديلات داخل المواقع المرتبة أو بجوارها، وألزمت الإدارة بمنح الإذن المسبق لكل أشغال من شأنها التأثير على الخصائص التاريخية أو الجمالية أو المعمارية للموقع المعني. وتمنح هذه المقتضيات للإدارة سلطة توقيف الأشغال وممارسة الاحتلال المؤقت أو نزع الملكية، بل حتى حق المتابعة القضائية والتعويض عن الضرر الذي يطال المصلحة العامة المرتبطة بالتراث.

وبالنظر في عمق هذا القانون، نجده يعكس وعيا جديدا بقيمة التراث باعتباره موردا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. فهو لا ينظر إلى التراث كعبء رمزي أو عائق أمام التنمية، بل يدرجه ضمن أدوات التأهيل المجالي، والتنوع السياحي، والتنمية المستدامة. ويتجلى هذا الوعي في إقرار مخططات لتدبير التراث على المستوى المحلي والوطني، وربطها بالبرامج التهيئة، والمخططات البيئية، والإستراتيجيات الثقافية، بل وحتى بالسياسات الحضرية الكبرى. إنه قانون يسعى إلى ضمان التوازن بين حماية الماضي واحتياجات الحاضر، في أفق تمكين الأجيال المقبلة من الحق في التمتع بإرثها الوطني.

لقد نص هذا القانون، ضمن مقتضياته الزجرية، على تجريم السرقة أو التصدير غير المشروع للمنقولات التراثية، وجعل العقوبة في هذا الإطار تتراوح بين الحبس من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة مالية قد تصل إلى 200.000 درهم، مع تشديد العقوبة لتصل إلى السجن من خمس إلى عشر سنوات إذا ارتكبت الجريمة في إطار عصابة إجرامية منظمة. كما عاقب على التخريب أو التشويه الذي قد يطال العقارات أو المنقولات المصنفة، وجعل العقوبة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات حبسا، مع غرامات قد تبلغ نصف مليون درهم، وهو ما يعكس خطورة الفعل من زاوية الأثر الرمزي والثقافي، لا فقط من حيث الضرر المادي.

أما فيما يتعلق بالحفريات أو الأبحاث المنجزة دون ترخيص، فقد نص القانون على عقوبة حبسية من ستة أشهر إلى سنتين، وغرامة قد تصل إلى 20.000 درهم، بينما عوقب عدم التبليغ عن فقدان أو سرقة العناصر التراثية بغرامات مشابهة مع حبس يصل إلى سنتين. ويظهر من خلال هذه المقتضيات أن المشرع يقر بوجود طيف واسع من الأفعال الإجرامية التي تمس التراث، ويرتب على كل فعل ما يناسبه من عقوبات، سواء كانت أفعالًا إيجابية كالسرقة أو السمسرة أو التخريب، أو أفعالا سلبية كالإهمال أو الامتناع عن التبليغ. كما عاقب القانون على البناء أو التغيير غير المرخص في المناطق المحمية، بغرامة مالية قد تصل إلى 10.000 درهم، مع مصادرة الأدوات المستعملة، إيمانا بأن حماية المجال التراثي لا تكتمل إلا بالتحكم في محيطه العمراني والتصدي لأي تهيئة عشوائية.

ومن حيث مراقبة تنفيذ هذه المقتضيات، أوكل القانون صلاحية معاينة المخالفات لمجموعة من الجهات التي تتمتع بصلاحيات الضبط القضائي أو الإداري، ومنها ضباط الشرطة القضائية، وأعوان إدارة الجمارك، ومراقبو التعمير، وأعوان الإدارات المكلفة بالتراث والشؤون البحرية والجيولوجيا. ويعكس هذا التعدد في الجهات المكلفة بالمعاينة قناعة المشرع بضرورة تضافر الجهود المؤسساتية لتأمين حماية فعالة، متجاوزًا بذلك النموذج التقليدي الذي يكتفي بإسناد الرقابة إلى جهاز وحيد.

وإذا كان القانون الجديد قد أتى بمقتضيات دقيقة في تجريم أفعال المساس بالتراث، فإن الاجتهاد القضائي المغربي بدوره لم يكن غائبا عن تطوير مفاهيم الحماية الجنائية لهذا القطاع. ففي قرار بارز صادر عن محكمة النقض بتاريخ 19 يناير 2021، تحت رقم 90 في الملف الجنائي عدد 2020/12/6/7723، قضت المحكمة ببراءة متهم وجهت إليه تهمة التنقيب غير المشروع عن الكنوز على الشاطئ باستعمال جهاز كشف المعادن. وقد عللت المحكمة قرارها بأن العناصر التي كان المتهم يبحث عنها، والمتمثلة في معادن وقطع نقدية سطحية، لا ترقى إلى مستوى “الكنز” بالمعنى المنصوص عليه في الفصل 528 من القانون الجنائي، والذي يشترط أن يكون المال المدفون ذا قيمة كبيرة. واستندت المحكمة إلى غياب القصد الجنائي الخاص في سلوك المتهم، معتبرة أن إثبات النية الجنائية هو شرط جوهري لترتيب المسؤولية.

تبرز أهمية هذا القرار من خلال كونه وضع حدودا دقيقة لتجريم الأفعال المرتبطة بالتراث، وتمييزها عن الممارسات العادية التي لا تتوفر فيها عناصر الجريمة. كما يتقاطع هذا الاجتهاد مع فلسفة القانون 33.22، الذي سعى بدوره إلى تقديم تعريفات دقيقة للتراث في شتى صوره، وتحديد الأفعال المجرمة بعبارات صريحة، منعا لأي لبس أو تأويل فضفاض. فالقانون يجرم، في مادته 117، التصدير غير المشروع للمنقولات التراثية، ويُجرّم في مادته 98 الحفريات أو الأبحاث الأثرية دون ترخيص، بينما تجرم المادة 118 التشويه أو الهدم أو الإضرار بالعقارات أو البنايات المرتبة.

وتبدو أهمية هذه الدقة التشريعية إذا ما افترضنا أن وقائع القرار السالف الذكر وقعت اليوم، في ظل نفاذ القانون 33.22. ففي هذه الحالة، كان بإمكان المحكمة الاستناد إلى المادة 117، إذا ثبت أن القطع النقدية التي بحث عنها المتهم تدخل ضمن الجرد الرسمي للتراث المنقول. أما إذا تم استعمال جهاز الكشف في منطقة مرتبة كموقع أثري، فإن الأمر سيشكّل جنحة بموجب المادة 98. كما أن القانون الجديد حافظ على مطلب إثبات القصد الجنائي، لكنه وفّق بينه وبين متطلبات حماية المصلحة العامة، من خلال إقرار افتراضات قانونية في بعض الحالات، وفرض تراخيص مسبقة كشرط للقيام بأي نشاط في المواقع المصنفة.

إن القانون 33.22، بما يحمله من دقة في الصياغة، وتوازن في الردع، وتدرج في العقوبات، يعد بمثابة ميثاق وطني جديد لحماية التراث، يؤسس لمرحلة يكون فيها القانون حارسا للذاكرة الجماعية، لا مجرد أداة زجرية صماء. غير أن فعاليته ستظل رهينة بحسن تطبيقه، وتفسيره تفسيرا منضبطا لمقاصده، وهو ما يضع على عاتق القضاء مسؤولية ضخمة في ترسيخ اجتهادات تضمن وضوح التجريم، وضرورة إثبات القصد، والتناسب بين الفعل والعقوبة.

في خاتمة هذا التحليل، يمكن القول إن القانون رقم 33.22 لا يندرج ضمن سلسلة القوانين التقنية الجامدة، بل هو نص تشريعي ذو حمولة رمزية عميقة، يعكس إرادة وطنية صريحة في صيانة الذاكرة الجماعية، وحماية الرأسمال اللامادي، وجعل التراث بمختلف أشكاله في صلب السياسات العمومية الثقافية والتنموية. إنه قانون يناهض النسيان، ويحمي ما لا يمكن تعويضه، ويؤسس لتوازن جديد بين التاريخ والقانون، بين الرمزي والمادي، بين الماضي والمستقبل، فيما يوجد تحت الأرض وما فوقها، من خلال تصور قانوني شامل يدمج البعد الوقائي بالبعد الزجري، ويكرس حماية فعالة للعناصر التراثية في بعدها المادي وغير المادي، الطبيعي والجيولوجي. وبذلك يشكل هذا القانون إطارا قانونيا متطورا، يرتكز على فلسفة تكاملية تتفاعل فيها الأدوات التشريعية مع الرهانات الهوية، وتلتقي فيها الحماية القانونية بالإلتزامات المجتمعية. ومع ذلك، فإن فعالية هذا القانون ستظل رهينة بمدى قدرة المؤسسات على التنسيق الفعلي، وملائمة السياسات العمومية ذات الصلة، وفعالية القضاء في الاجتهاد والتفسير، ومساهمة المجتمع المدني في التبليغ والمساءلة والترافع. إن القانون 33.22 لا يكتفي بحماية العناصر الجامدة للتراث، بل يتوجه إلى حماية العلاقات الحية التي تربط الإنسان بمجاله وتاريخه وذاكرته، ويؤسس لتحول مفاهيمي عميق في علاقة الدولة بالتراث، من منطق الحفظ الإداري إلى منطق التثمين التشاركي إلى الحماية الجنائية. وإذا ما تم تنزيل هذا النص وفق مقاربة شاملة، فإن التراث المغربي لن يكون فقط ماضيا محفوظا، بل حاضرا نابضا، ومستقبلا مستداما للأجيال القادمة.

دكتور في القانون الخاص بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة-
متخصص في العلوم الجنائية، أستاذ زائر بجامعة محمد الخامس الرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News