مجتمع

من “كان يا ما كان” إلى الاندثار الرقمي.. الحكاية الشعبية تتحدى النسيان

من “كان يا ما كان” إلى الاندثار الرقمي.. الحكاية الشعبية تتحدى النسيان

“كان يا ما كان، في قديم الزمان”. جملة لم تكن يوماً مجرد بداية لقصص ما قبل النوم، بل كانت بوابة عبور نحو عوالم من الحكمة، والقيم، والمعرفة، حملتها الجدات عبر الألسن لا عبر الكتب. في زمن لم تكن فيه مدارس ولا جامعات، كانت الحكاية الشعبية هي الجامعة التي لا جدران لها، والمنبر الذي تربت فيه الأجيال على مفاهيم الحياة، والحب، والخوف، والحلم.

لكننا اليوم، في زمن الذكاء الاصطناعي والشاشات اللامتناهية، أضحت مكانة الحكاية الشعبية تتضاءل شيئا فشيئا بعدما كانت كنزا ثقافيا حيا، هوّة كرسها جيل يتربى على محتوى رقمي سريع الإيقاع، ويركض خلف الضجيج الإلكتروني المتسارع.

سعاد، طالبة جامعية، تؤكد لــ”مدار21″، أن الحكاية الشعبية ما تزال تحتفظ ببريقها وسط عائلاته، وتقول “ما تزال جدتي، بكل ما تحمله من دفء وتجارب وحكمة، تحكي لنا الحكايات الشعبية كلما اجتمعنا في البيت، خاصة في المناسبات العائلية أو في أمسيات الشتاء. نلتف حولها نحن الأحفاد، ونتحول فجأة إلى أطفال صغار بفضول كبير وآذان مُصغية، نستمع إلى قصص عن الذئب والثعلب، عن النساء الحكيمات والرجال الشجعان، عن الحب والخيانة، والعدل والقدر”.

وتوضح الطالبة الجامعية أن الحكايات “تُروى بلغتنا الأمازيغية العريقة، وتُرافقها نظرات ونبرة صوت جدتي التي تأخذنا إلى عوالم بعيدة لكنها قريبة من القلب. ليست مجرد حكايات نسمعها وننساها، بل هي جزء من ذاكرتنا الجماعية، من لغتنا وهويتنا، من طفولتنا التي ما زلنا نتمسك بها رغم تغيّر العالم من حولنا”.

بهذا الصدد، يؤكد عزيز احلوى، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط أن “الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية عموماً لعبت دوراً مهماً جداً في الانتباه إلى المعرفة الشفوية للشعوب، على اعتبار أن جزءاً كبيراً من هذه الثقافة كان وما يزال شفوياً”، مردفا “عندما أقول ‘كان’ فأعني حتى عصر ما قبل الكتابة؛ حيث كانت الرواية الشفوية هي الضامنة الأساسية لصيانة ثقافة كل شعب”.

لكن رغم ظهور وسائل التدوين الحديثة، يرى احلوى أن الحكاية الشفوية لم تفقد قيمتها، بل صارت تنقل من الشفاه إلى الصفحات، قائلا: “بدأت الشعوب تدون المعرفة الشفوية لتحويلها إلى مادة معرفية عالمة. وعندما أقول عالمة، فطبعا الكتابة هي عالمة، ولكن كذلك الرواية الشفوية للشعوب هي أيضا عالمة”.

وأشار المتحدث ذاته إلى الجهود العالمية التي أُطلقت للحفاظ على هذا التراث قائلا: “ظهرت العديد من الأوراش والهيئات، خصوصا الدولية، لحفظ التراث العالمي الشفوي ونجدته من الضياع، وفي مقدمتها منظمة اليونسكو، التي قامت بدور مهم جدا في الحفاظ على ثقافة الشعوب، خاصة تلك التي كانت في طريقها إلى الاندثار”.

ولم تتوقف هذه الجهود عند التوثيق الورقي فقط، بل شملت كل الوسائط الممكنة، يقول أستاذ الأنثروبولوجيا: “خصصت اليونسكو منحا ومكافآت مهمة جدا من أجل حفظ هذا التراث، سواء في كتب أو مقالات أو أفلام أو روبورتاجات، أو عبر الإعلام الذي يشتغل على حفظ الذاكرة الجماعية للبشرية”.

ويوضح الأكاديمي في السياق نفسه “من جهة أخرى، هناك منظمة الإيسيسكو، ومقرها الرباط، وقد اهتمت بالحفاظ على الثقافة الشعبية التي لها علاقة بالتربية، بما فيها الروايات الشفوية الخاصة بالتلقين والتربية”، ما أسهم في ظهور مفهوم “التراث غير المادي الإنساني”، كمصطلح يعكس الاعتراف الدولي بالحكاية كجزء من هوية الشعوب.

وشدد عزيز احلوى، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط على أن العالم اليوم يمتلك أرشيفا ضخما لهذا التراث اشتغلت عليه اليونسكو من أجل الحفاظ عليه، ونجد التراث الشفهي والشعبي لكل ثقافات العالم مخزونا ومحفوظا في هذه المؤسسة عبر قنواتها المعروفة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News