رأي

حكاية الأشياء

حكاية الأشياء

الحياة كلها أسرار. معالم بعضها محدد بينما الآخر، وهو الغالب، مبهم وغامض لا سبيل لاستكناهه. وهذا أمر جميل. ولعل سر جمال الحياة هو أنها لا تكشف لنا عن جميع ألغازها. وهذا لغز محير في نفس الوقت، لأننا في لحظات نتوق استيضاح ما غمض منها، بعبارة أخرى نطمح إلى معرفة حقائق الأشياء كي نحسم في اختيارنا أو نحدد موقفنا من مسألة ما قد تترتب عنها تبعات وتداعيات تكون مؤلمة أو صادمة. غير أن للحياة منطقا آخر، إنها ترغمنا على السير معها، على مواكبة كل جميل أو قبيح فيها، في خط متواز، أو أبطأ قليلا. وهنا يكمن سر آخر من أسرار جمالها.

الحياة تضعنا يوميا أمام تحديات بها نقيس مدى قدرتنا على التحمل ومدى استعدادنا لمواجهة صعوبات كيفما كان نوعها وشكلها. تضعنا أمام امتحانات لا نتوقعها، وبالتالي لا نتسلح في تلك اللحظة المباغتة بالأدوات الضرورية لاجتيازها وتجاوزها وتفادي انعكاساتها ونتائجها السلبية. لكن في المقابل نختبر بها مدى جاهزيتنا لمواجهة أي طارئ او حادث بالاعتماد على خبراتنا التي راكمناها طيلة مشوار حياتنا. فنقوم بتقييمها لنعرف الصحيح منها والخطأ، الصالح والطالح.

تجارب الحياة، الصعبة منها على الخصوص، تجعلنا ننكب أكثر على معرفة نواقصنا واكتشاف فقرنا المعرفي والذهني والحياتي عموما لنعمل على تداركه وتصحيحه أو تقويمه وتصويبه. ننكب على هفواتنا أيضا لتفاديها في المستقبل وتجنب كل أسبابها.

الحياة تفاصيل وجزئيات، بعضها مفصل وواضح وبعضها الآخر غامض حسب الظروف والأحوال وأيضا حسب الأشخاص ومزاجهم. ما يبدو سهلا وواضحا للبعض ليس بالضرورة كذلك بالنسبة للبعض الآخر. وليست كل الأمور والأشياء بنفس السهولة واليسر للجميع. وهذا ما يضفي على الحياة المزيد من الجمال ومن التعقيد واللغز. التنوع يحارب الرتابة، تلك الرتابة التي تجهض من الأصل كل المبادرات التي تنعش الخيال وتنمي الإبداع بإطلاق العنان للمخيلة وللذاكرة.

لا شيء إذن أفضل من الاختلاف والتنوع. لا يسد مسدهما. وبدونهما تفقد الحياة طعمها، وتقبع في غياهب الرتابة والملل. تفاصيل الحياة مختلفة ومتنوعة وهذا ما يمنحها قيمتها وأهميتها. الاختلاف يجعلك تعي بأهمية ما تملكه وقيمة ما بحوزة غيرك. فيها نرى جمال الأشياء وجماليتها. فيها نثمن ما نملك، ونتعلم ألا نرى الأشياء من موقع اقدامنا. الحياة معطاءة وسخية وكريمة في هذا التنوع، رغم قساوتها تجاه الكثيرين. الاختلاف ينمي روح التسامح وتقبل الآخر وقبول، ذلك الآخر الذي ليس سوى مرآة لنا ولذواتنا. الآخر هو نحن في نظره. هو انعكاس لأدوار نقوم بها كلنا لكن بشكل فردي وهي في الاخير متكاملة وتشترك كلها مجتمعة في رسم لوحة الحياة الجماعية. لا شيء زائد ولا شيء ناقص. كأنها اجزاء من الشطرنج. كل قطعة تقوم بدورها في علاقتها بالأجزاء الأخرى وهي كلها مختلفة لكن بعضها ضروري للبعض الآخر.

قد نختلف في الجنس واللون والعرق والدين والمعتقد والأصل واللسان والبلد والمنبع والوطن. قد نتفرق في الفهم والاستيعاب والمنظور والرأي والتأويل. قد لا نلتقي في الرؤى والمواقف والاصطفاف بهذا الجانب أو ذاك. قد نختلف في التوجهات والقناعات أو في الأيديولوجيات. لا ضرر في كل هذا، بل هو أمر صحي وضروري ويدخل ضمن قانون الاختلاف، بل يعتبر من تجليات الاختلاف نفسه. هي نتيجة طبيعية وحتمية لهذا التنوع والاختلاف الذي توفره الطبيعة نفسها باختلاف الاماكن والأزمنة والأشخاص والأحداث في سياقات مختلفة ومتغيرة بالخصوص، تتشابك فيها المصالح والاهتمامات والأولويات وغيرها.

لكن لا يمكن أن نختلف حول القيم الكونية التي كانت وما تزال سبب وجود الإنسان ومبرر استمراره وتعايش الإنسانية في هذا الكون. هذا التعايش الذي تتجاذب أطرافه بليونة تارة أو بعنف تارة أخرى حسب الظروف، لكن دائما تحت يافطة القيم الإنسانية الكونية. لا يمكن إذن أن نختلف حول مفاهيم عامة تعتبر المكون الرئيسي لهذه القيم، من قبيل الاحترام والكرامة والتقدير والعطاء والكرم والجود والسلم والنزاهة والتضامن والتلاحم والتصالح والمصالحة والسلام والوئام والحب.

هي مفاهيم عامة ومجردة في معناها، بل وقد تبدو للكثيرين جد مثالية يصعب تحقيقها أو الوصول إليها، وهي حقيقة صحيحة إلى حد كبير.  لكن ذلك لا يمنع من أن نطمح إليها. وهي تدخل أيضا ضمن تفاصيل الحياة التي لا يجب التفريط فيها. فهي التي تجعلنا نطمح إلى غد أفضل، فلا ندخر وسعا في بذل جهد أكبر، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لإنجازها في حدها الأدنى.

غير أن تحقيقها في أرض الواقع رهين بشروط محددة ومعلومة، بدونها يبقى كل ما تمت الإشارة إليه مجرد حبر على ورق أو مجرد شعارات نتنافس أحيانا في استظهارها والتباهي بها فيما بيننا باقتناع أو بغير اقتناع. لابد إذن من تهيئ ظروف تنزيلها على الواقع لنجني ثمارها ونرى آثارها على الأفراد ونلمس انعكاسها على المجتمع برمته. ليس خافيا على أحد أن هذا الأمر يتطلب تدبيرا أمثل أولا للاختلاف وثانيا استثمارا أفضل للإمكانيات والوسائط. علينا أن نعي أيضا بأننا جزء من هذا الكل المختلف. ولا نحقق ذواتنا أو نثبتها الا من خلاله ومن داخله. لا مناص إذن من ايجاد مساحة نلتقي حولها كلنا وتنتهي فيها كل اختلافاتنا وتذوب فيها كل خلافاتنا وتنصهر فيها فردانيتنا في تآلف وتناغم تجعل المستحيل ممكنا، والبعيد قريبا، والصعب سهل المنال.

هذه المساحة لا بدّ منها إذن ووَصْفتها بالتأكيد تبدأ بالتخلص من أنانيتنا وتقديم تنازلات بالحد الذي يتيح التفاعل واللقاء. تشترط المساحة في الآن نفسه الابتعاد عن التعصب للذات ولأفكارها وما تتشبث به وتعتبره الصواب أو الحقيقة الوحيدة والمطلقة. آنذاك، فقط سيمكن للقيم الكونية أن تبسط نفوذها وتفرض وجودها كأداة فعالة لتعايش سلمي ومسالم يجد فيها كل فرد طريقه، على أمل الوصول إلى تفاصيل الحياة التي يريد أن يحياها باختلاف مع الآخر واحترام لقناعاته وقيمه في ذات الوقت.

تعليقات الزوار ( 2 )

  1. فهم لغز الحياة، القيم الكونية والتعايش رغم الاختلافات الجنسية،العقائدية و..و…سر من اسرار تقدم الاوطان وازدهار الامم.
    كل الشكر لدكتورنا و أستادي السابق على هذه الوصفة . تعلمنا منكم قبل ازيد من 20 سنة مضت وما زلنا نستفيد من جهودكم المبذولة في صالح هذا البلد و ابنائه.
    احمد.ب

  2. بارك الله فيك دكتورنا الفاضل. فعلا انها الحياة بكل تجلياتها وتناقضاتها وجمالها وقبحها وفرحها وقرحها…. واصل الكتابة فعربيتك جميلة وأفكارك اجمل…اشتقنا إلى هكذا مقالات و كتابات تروي الروح وتحفزها على محبة العيش والحياة وقبول الاختلاف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News