ثقافة

“حلم بلا حدود”.. سفر مسرحي في نصوص فاطمة المرنيسي

“حلم بلا حدود”.. سفر مسرحي في نصوص فاطمة المرنيسي

ليست كل النصوص سهلة ولا ميسرة للعرض السينمائي ولا حتى للعمل التلفزيوني أو السينمائي، فإذا كان من السهل تحويل مجموعة من الأعمال الأدبية التي تدخل في خانة العلوم الإنسانية إلى أعمال مسرحية أو فنية، فإن أعمال عالمة الاجتماع المغربية الراحلة، فاطمة المرنيسي، من تلك النصوص العصية، على الرغم من اندراج بعضها في إطار المحكيات أو النصوص السردية السيرية، وهذا بالفعل ما بدا بشكل جلي في العمل المسرحي “حلم بلا حدود”، لفرقة “مسرح 19” مع الفنانتين المسرحيتين المغربيتين أمال عيوش وسناء عاصف، والمخرجة الفرنسية آن لور لييجوا (Anne-Laure Liégeois).

ساهم في الاشتغال على هذا العمل المسرحي، المدعم من طرف المركز الثقافي الفرنسي بالمغرب وإنتاج المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، كل من الفنانتين أمال عيوش وسناء عاصف، اللتان كانتا وراء الفكرة واشتغلتا عليها على مدى سنتين وعبر إقامة فنية بالمركز الثقافي الفرنسي بفاس على مرحلتين (مارس ونونبر 2021) بشراكة مع مؤسسة “علي زوا”، لتتولى فيما بعد الفنانة أمال عيوش والمخرجة أسماء هوري والمخرجة الفرنسية آن لور لييجوا الكتابة الدرامية لهذا العمل المسرحي، الذي استلهم العديد من نصوص فاطمة المرنيسي، وحاول استعادة روحها المرحة وبداهتها وسخريتها المعهودة، وأناقتها الدائمة واعتناءها باللباس التقليدي المغربي بطريقتها الخاصة، وحليها التي كانت تصنعها بنفسها وتتزين بها باستمرار، وهو ما ظهر في لباس الممثلتين أمال عيوش وسناء عاصف، اللتان بدلتا مجهودات مضاعفة وتشربتا نصوص المرنيسي، لكي تعطيا للمسرحية  ذلك النفس السحري، الذي توارت فيه السينوغرافيا مقابل جلال النص وقوته.

تسيد النص على العرض

فعلى الرغم من اعتماد مخرجة مسرحية “حلم بلا حدود” طيلة ساعة العرض على أداء الممثلتين البارع وعلى بعض المؤثرات الفنية كالإضاءة وبعض المقاطع الموسيقية والغنائية لأم كلثوم، فإن قوة العرض تتجلى في نصوصه القوية وشخصية عالمة الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي، التي تملكت الخشبة، وهو بالفعل ما عبرت عنه الفنانة أمل عيوش في جواب عن سؤال لنا بعد عرض المسرحية بالمركز الثقافي بمدينة مكناس مساء يوم 3 مارس الجاري، حيث قالت إن “الأهمية الكبرى قد أعطيت في هذا العمل للنص، لأنه أمام قوة النصوص وحمولاتها الفكرية والتعبيرية والتصويرية لم يكن أمام المخرجة إلا الرضوخ للنص”.

وأضافت أمال عيوش بأن هذا العمل المسرحي قد عرف تقلبات وتغيرات كثيرة، ففي البداية كان التفكير حاضرا لتقديمه بالدارجة، العامية المغربية، وتوظيف عاملات النسيج وغيرها من الأشياء التي كانت ستغني العمل مسرحي، كما تم تكليف الفنانة اللبنانية سيرين فتوح بإعداد فيديوهات لتطعيم العرض بصور وصوت المرنيسي، ولكنها للأسف بسبب مجموعة من الإكراهات ومن بينها الأوضاع الصعبة بلبنان لم تجهز، وهذا ما جعلنا نحرص على إعطاء النص الأولوية وتقديم سفر مسرحي في نصوص الراحلة، نحلق فيها بأجنحة الحلم عبر الزمان والمكان، ونستحضر أهم التفاصيل الصغيرة والكبيرة، التي صنعت من المرنيسي هذه الإنسانة المناضلة الحالمة رغم أنها ازدادت في بيئة محافظة، وتحديدا في “حريم” بمدينة فاس.

الحريم ورسم الحدود

تنطلق المسرحية بهذه الجملة: “ولدت سنة 1940 في حريم بفاس”، وهي الجملة التي تبدأ بها المرنيسي روايتها “نساء على أجنحة الحلم”، والتي تتحدث فيها عن أجزاء مهمة من سيرتها الذاتية ومن طفولتها بمدينة فاس العتيقة، وفي بيئة محافظة حيث الحدود بين النساء والرجال، والكل يخضع لأعراف وتقاليد المجتمع الذكوري، خاصة النساء اللواتي لا يمكن أن يحدن عن “القاعدة” ولا يتجاوزن الحدود، التي رسمها الرجل، وأفسح لنفسه المجال العام الرحب، وسيج النساء في فضاء ضيق مربع، هو الحريم، يحرم النساء من حقهن في الحلم والتحليق بكامل أجنحتهن.

وعبر توليفة فنية من النصوص المختارة للكاتبة من مثل: “سلطانات منسيات”، و”الحريم السياسي”، “هل أنتم محصنون ضد الحريم؟”، و”شهرزاد ترحل إلى الغرب”، و”الحب في البلدان المسلمة”، المقدمة من خلال محاضرة متخيلة لعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي في قالب مسرحي، تمكنت المسرحية من نقل جوانب من طفولة وشباب المرنيسي، ومواقفها وأحلامها وحكاياتها المطرزة بخيوط نساء الحريم (من أمها وعمتها وغيرها من النساء)، المفعمة بألوان الحلم ورسومات تحلق في المدى البعيد، برعت النساء في تطريزها ونقلها إلى بناتهن وحفيداتهن في ذلك العالم المغلق والمسموح لرب الأسرة فقط. في هذا العالم لم يستوعب عقل الطفلة والشابة كل هذه الحدود التي يفرضها العقل الذكوري على المرأة، التي تستسلم وتخضع للرجل عن جهل بحقوقها وكينونتها.

كما تمكنت المسرحية من نقل مجموعة من شذرات نصوص المرنيسي الفكرية المناهضة لكل أشكال التمييز بين النساء والرجال، ومفهوم “الحريم” بين الماضي والحاضر، ونضالها المستميت من أجل إنصاف المرأة وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، والكشف عن المفاتيح السحرية لعالمة الاجتماع التي تمكنت من كشف العديد من المفارقات، ليس في المجتمعات العربية المسلمة فقط، بل وحتى في المجتمعات الغربية، التي وإن تبجحت بمبادئ الحرية والمساواة، فإنها ما زالت أسيرة منطق يشيء المرأة ويحولها إلى سلعة رخيصة.

شهرزاد المغربية

الحرية، الحب، الهوامش، القانون، القاعدة، الحدود، وشهرزاد، كلها كلمات صدحت بها حنجرتي أمال عيوش وسناء عاصف، منددتين مع فاطمة المرنيسي بالظلم الذي طال النساء وما زال، وكرسته حكاية شهرزاد في “ألف ليلة وليلة”، التي أبت على نفسها إلا أن تروي لشهريار كل ليلة حكاية شيقة لتجنب بنات جنسها من القتل المعنوي والرمزي، ولهذا فقد مثلت قصة شهرزاد بالنسبة إلى فاطمة المرنيسي، الانتصار العجيب للمرأة الضعيفة التي استطاعت بحنكتها مداهنة جلادها، محولة حقده إلى حب، وتهديده المتواصل بالقتل إلى ليالي طويلة من الحب، ولعل هذا النموذج المنقذ هو يجب الاحتذاء به من أجل تكسير حاجز الصمت عبر الحكاية، وهو الذي أعاد للنساء الثقة بأنفسهم وبقدراتهن، وهو ما عملت به “شهرزاد المغربية”، الوصف الذي يطلق على المرنيسي، حيث اختارت الكتابة كوسيلة للإسهام في تحرير المرأة. هل نجحت في كل ذلك وخلقت أثرا ما أو ساهمت في تغيير وضع المرأة بالمغرب؟

عن هذا السؤال المؤرق تقول المرنيسي نفسها على لسان أمال عيوش بأنه للأسف لم تتمكن من تحقيق الشيء الكثير، ولو خيرت بين ما كانت عليه، وما ترغب في أن تكونه، لاختارت أن تكون “عرافة”، لأنها ربما ستعمل على تذويب كل الفوارق وإزالة قشرة الدونية عن المرأة، التي ترى أنها إرث مشترك بين الشرق والغرب، بل إن مفهوم “الحريم” في الغرب أشد احتقارا للمرأة من الشرق، لأنه يخضعها لمقاسات استهلاكية لا تتجاوز مقاس 36 و38، ويجعلها مرتعا للهوى ويرى في الحريم “جنة جنسية”، كما هو الشأن مع فنانين عالميين كماتيس ورينوار وإنجر ودولاكروا، الذين ربطوا عن وعي أو من دونه بين المتعة والاستعباد.

إسماع صوت المرأة

ولهذا، ففاطمة المرنيسي التي خبرت الغرب بكل تناقضاته، وفرضت نفسها عليه كعالمة اجتماع جليلة متوجة بأرفع جوائزه، وتم اختيارها من ضمن مئة شخصية مؤثرة في العالم العربي، لم تكن لتقبل هذه النزعة الاستعمارية الجديدة، ولا التنميط واجترار تلك الصور السوقية عن المرأة لا في المشرق أو الغرب، ولهذا كتبت وناضلت بشتى الوسائل من أجل إسماع صوت المرأة وطرح العديد من الأسئلة الجوهرية حول قدرات المرأة ووضعياتها المختلفة داخل المجتمعات العربية والغربية، وتأثير الموروث الديني المتواصل والفهم الخاطئ للكثير من النصوص الدينية التي تتناول قضايا المرأة، وهو ما عبرت مرارا عن رفضها له لأنه يحد من حرية المرأة ويمس بكرامتها وإنسانيتها.

ولعل هذا ما نجحت هذه المسرحية، التي عرضت أول مرة بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط يوم 24 فبراير الماضي، وبالمركز الثقافي الفرنسي بفاس يوم 26 فبراير الماضي، ويوم 3 مارس الجاري كان جمهور مدينة مكناس على موعد مع عرض ثالث لها بالمركز الثقافي الفرنسي بنفس المدينة، وعرضت يوم 8 مارس الجاري بالمركز الثقافي الفرنسي لمدينة أكادير،  في إثارته، وشدت الانتباه إليها لأنها تعيد بقوة عالمة الاجتماع المغربية الراحلة في 30 نونبر من عام 2015، التي مازالت كتاباتها تحظى بالاهتمام والتقدير، وما زال عملها الميداني مع نساجات الزرابي ببلدة تازناخت البعيدة، وورشات البحث والكتابة شاهدة على عظمة هذه العالمة الجليلة، التي وهبت نفسها للعلم والمعرفة، وتركت إرثا فكريا إنسانيا رفيعا، وخلد اسمها عبر كراسي علمية في أعرق الجامعات العالمية، كما خلد اليوم مسرحيا، وقريبا من خلال شريط سينمائي أنهى تصويره المخرج المغربي محمد عبد الرحمان التازي، وهو شريط يحمل عنوان “فاطمة، سلطانة لا تنسى”، تقوم بدور البطولة فيه الفنانة مريم الزعيمي.

فإلى أي حد ستنجح السينما المغربية في مقاربة شخصية بحمولة فكرية متعددة ومتنوعة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News