التمثيل البرلماني.. حين يغيب المعنى قبل الجسد

عاد الجدل السياسي والمجتمعي مجددًا حول ظاهرة غياب نواب الأمة عن حضور الجلسات البرلمانية، خصوصًا تلك المتعلقة بمشاريع قوانين مفصلية تمس مصلحة الدولة والمواطن. وتزايدت حدة هذا النقاش مع اختتام الولاية التشريعية الحالية، على خلفية الغياب الجماعي ل 264 نائب عن جلسة حاسمة خُصصت لمناقشة مشروع قانون المسطرة الجنائية.
غير أن هذا الجدل، على أهميته، يظل حبيس التوصيف السطحي للظاهرة، دون أن يلامس جذورها البنيوية العميقة، التي لم تعد تقتصر على مجلس النواب فحسب، بل تمتد أيضًا إلى مجلس المستشارين، حيث تتكرر نفس مؤشرات العجز والفراغ التمثيلي. فالمشكل لم يعد ظرفيًا أو مرتبطًا بفترة تشريعية بعينها، بل يعكس اختلالًا هيكليًا يمس جوهر الأداء البرلماني ومصداقية المؤسسة التشريعية برمتها.
الغياب المادي والغياب الوظيفي والمعنوي
لا تكمن خطورة الظاهرة فقط في الغياب العددي (المادي) للنواب عن الجلسات، بل تتجلى بشكل أعمق في الغياب الوظيفي والمعنوي عن أدوارهم الدستورية الحقيقية. فالبرلماني لا يُنتخب فقط ليشغل مقعدًا داخل قبة البرلمان، بل ليؤدي مهام جوهرية وحيوية: المبادرة بالتشريع، مراقبة العمل الحكومي، بلورة بدائل سياسية، تأطير النقاش العمومي، ورفع نبض الشارع إلى دوائر القرار. لكن الواقع يعكس عجزًا مقلقًا عن ممارسة هذه الوظائف.
إن غياب المبادرة التشريعية، والاكتفاء بردود أفعال باهتة، حول البرلمان من فضاء للنقاش والرقابة إلى مجرد غرفة تصادق غالبًا على ما يُملى عليها، بدل أن تكون منبرًا حيًا لصياغة السياسات. أما الرقابة على العمل الحكومي، فغالبًا ما تُمارس بمنطق انتقائي، يخضع للولاءات والانتماءات السياسية، لا للمصلحة العامة.
الغياب الوظيفي ينتج فراغًا مؤسساتيًا قاتلًا، تتسلل من خلاله الشعبوية، وتُغذيه خطابات التبخيس واللاجدوى، ما يُفقد المؤسسة التشريعية رمزيتها، ويُضعف ثقة المواطن في جدوى العمل السياسي برمّته. أما الغياب المعنوي، فينعكس في الانفصال العميق بين المنتخبين وقضايا من يمثلونهم، وفي تراجع الحضور النوعي للبرلمان في الحياة الوطنية كفضاء للتأطير والتفاعل مع الرهانات الكبرى للبلاد. إنه غياب مزدوج: جسدي ووظيفي، لا يفرّغ البرلمان من محتواه فحسب، بل يُفرغ السياسة من معناها، ويضعف السلطة التشريعية في أعين من فوضها سلطة الدفاع عنه وعن مصالحه.
وحتى عندما يكتمل الحضور بنسبة 100% خلال افتتاح الدورة التشريعية أمام جلالة الملك، فإن ذلك لا يعكس حضورًا حقيقيًا بالمعنى العميق. إنه حضور احتفالي، شكلي، بلا أثر ولا امتداد. فالتوجيهات الملكية، التي تُلقى في لحظة وعي ونداء للمسؤولية، لا تُترجم في كثير من الأحيان إلى سياسات أو التزامات واقعية. نحن هنا أمام مفارقة وجودية: حضور بالجسد دون الروح، وغياب لا يُقاس بالكرسي الفارغ بل بانعدام الأثر. حضور بطعم الغياب، وغياب بطعم التواطؤ مع السكون والفراغ، حيث تتحول السياسة من فعل حي نابع من الإرادة العامة إلى ممارسة رمزية مفرغة، تكرّس الجمود وتُضعف أحد أهم أركان التوازن الديمقراطي.
نخب بلا أدوات وأحزاب تنتج الرداءة
يتعمق الغياب الوظيفي داخل المؤسسة التشريعية حين يُقترن بضعف الكفاءة، وعجز عدد كبير من النواب عن الاضطلاع بمهامهم الدستورية. فالعجز عن المبادرة بالتشريع أو المشاركة الفعالة في النقاش العمومي لا يُفسَّر فقط بغياب الإرادة السياسية، بل أيضًا بضعف الأدوات المعرفية والمؤهلات التي تتيح الفهم، والتحليل، وصياغة البدائل.
تكشف معطيات وزارة الداخلية عن محدودية مقلقة في كفاءة عدد من نواب الأمة: 132 نائبًا دون شهادة البكالوريا، و109 آخرون لا يتجاوز مستواهم التعليم الثانوي، بينما لا يتعدى مستوى 21 نائبًا حدود التعليم الابتدائي. ورغم أن عدد النواب الأميين تراجع إلى ثلاثة فقط، فإن نسبة الحاصلين على تعليم عالٍ انخفضت من 74.68% في الولاية السابقة إلى 66.33% حاليًا، في وقتٍ يُفترض فيه أن ترتفع متطلبات الكفاءة لا أن تنخفض. أما على المستوى تدبير الشأن المحلي، فالوضع أكثر إثارة للقلق؛ إذ أن 10.3% من المستشارين الجماعيين لم تطأ أقدامهم المدرسة، وأكثر من ربعهم دون شهادة البكالوريا.
الأدهى من ضعف مؤهلات بعض المنتخبين هو هشاشة المعايير الحزبية ذاتها. فرغم أن وزارة الداخلية تنشر أرقامًا عامة، فإنها لا تُقدّم تحليلًا نوعيًّا يُبيّن طبيعة التخصصات الأكاديمية للمرشحين ومدى ملاءمتها للمهام التشريعية والرقابية، بخلاف ما هو معمول به في ديمقراطيات مجاورة كفرنسا. فهناك، لا يكتفون بنشر التخصصات، بل يذهبون أبعد من ذلك من خلال إبراز الكفاءات التي يقترحها كل حزب، مما يُمكّن الرأي العام من تقييم مستوى التجديد النخبوي ومدى قدرة الأحزاب على تقديم طاقات جديدة مؤهلة.
هذا النهج يعزز جاذبية الأحزاب، ويُسهم في إعادة الثقة بالعمل السياسي، من خلال ربط الترشيحات بالكفاءة والتأثير الفعلي، لا بالولاءات أو التوازنات الضيقة. والمفارقة أن منظومتنا السياسية تستورد من فرنسا أغلب المبادئ الدستورية والتشريعية، لكنها تتنصل من القيم الجوهرية التي تؤسس لمصداقية الممارسة الديمقراطية، وعلى رأسها الشفافية، والنزاهة، وربط المسؤولية بالكفاءة.
في المقابل، نجد في المغرب أحزابًا اختزلت العمل التمثيلي في أسماء رمزية بلا تكوين، ولا مشروع، ولا صلة بالفعل السياسي. بل أكثر من ذلك، أصبحت بعض الأحزاب لا تقيس أهلية مرشحيها بناءً على الكفاءة أو الرؤية، بل على ما يمتلكونه من مال، بغضّ النظر عن مصدره. وهو ما جعل المال، لا القيمة السياسية أو الفكرية، يصبح المعيار الحاسم في الترشح والفوز. هكذا، ترسّخ في المشهد الحزبي المغربي شكلٌ من “الزواج الكاثوليكي” بين المال والسلطة، يصعب فصله دون كلفة سياسية باهظة، وربطت فئات واسعة من المواطنين بين الأحزاب وبين الفساد أو الولاء لأعيان يملكون النفوذ ولا يملكون الشرعية الأخلاقية أو المعرفية لتمثيل الأمة.
امتيازات بلا التزامات: وباء مجتمعي صامت
المقلق في ظاهرة غياب النواب المتكرر عن جلسات البرلمان ليس فقط حجم الغياب، بل الأدهى من ذلك غياب أي آلية فعلية للمحاسبة أو التقييم. والأسوأ أن هذا الغياب يُقابَل غالبًا بصمت رسمي وتواطؤ مؤسسي ضمني، وكأن الأمر لا يستحق التنبيه أو التدارك. ففي بلد يُحاسَب فيه الموظف البسيط على دقائق تأخيره، ويُقتطع من أجره لمجرد غياب غير مبرر، نجد في المقابل عددًا من ممثلي الأمة يتقاضون أجورًا وتعويضات وامتيازات سخية، دون أن يلتزموا بالحد الأدنى من الحضور أو الأداء. هذا التناقض الصارخ يُحوّل مبدأ “الحق يقابله الواجب” إلى شعار أجوف، ويُفرغ مفاهيم الحكامة الجيدة والمسؤولية من مضمونها، في انتهاك صريح لروح دستور 2011، الذي نصّ على المساواة أمام القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة.
وتزداد خطورة هذا الوضع حين لا يقتصر الغياب على النواب، بل يمتد ليشمل وزراء في الحكومة، في مشهد يعكس تماهياً مقلقاً بين الغياب البرلماني والغياب الحكومي. إذ بات من المعتاد أن تُعقد جلسات الرقابة دون حضور الوزراء المعنيين، أو أن تُرجأ الأسئلة الآنية بدعوى تعذر الحضور، ما يُفرغ الجلسات من مضمونها الرقابي، ويُحوّل النقاش السياسي إلى طقس شكلي لا أثر له في القرار العمومي. إن تكرار غياب أعضاء الحكومة لا يُظهر فقط استخفافًا بمؤسسة البرلمان، بل يُكرّس تصورًا بأن النقاش العمومي غير مُلزِم، وأن السياسة تُدار خارج قنواتها المؤسسية.
ما نشهده اليوم هو شكل مُقنَّع من الريع السياسي، حيث تُمنح المناصب والامتيازات لا بناءً على الكفاءة أو الالتزام، بل وفق منطق الولاءات الحزبية والتزكيات الضيقة. وهي ممارسة لا تمس فقط بصورة المؤسسة التشريعية، بل تضرب في العمق الثقة الشعبية في جدوى العمل السياسي برمته. فعندما يتغيب نائب برلماني دون مبرر، ومع ذلك يستمر في تقاضي تعويض يفوق ما يحصل عليه طبيب أو مهندس أو أستاذ يُمارس عمله يوميًا بتفانٍ، فإن الرسالة التي تصل للمواطن واضحة: هناك من هو فوق القانون، ومن يُفترض أن يُمارس الرقابة هو أول من يتفادى الخضوع لها.
والأخطر أن هذه الممارسات تفرغ البرلمان من مضمونه كسلطة دستورية قائمة بذاتها، وتدفع به إلى أن يتحول إلى مجرد واجهة رمزية، فاقدة للدور التشريعي والرقابي الحقيقي. وهنا تصبح الديمقراطية هشّة، والتوازن بين السلط مجرد خطاب بلا أثر. لذلك، فإن إصلاح منظومة التمثيل لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة وطنية مستعجلة، لإعادة المصداقية إلى المؤسسات واسترجاع ثقة المواطنين في السياسة والدولة على حد سواء.
آفاق انتخابات 2026: هل تحمل الانطلاقة الحقيقية للإصلاح؟
رغم عمق الأزمة التمثيلية التي تخنق الحياة السياسية في المغرب، يبقى أفق 2026 محطة مفصلية يمكن أن تُشكّل منطلقًا لإصلاح تدريجي وواقعي لمنظومة التمثيل. غير أن هذا الأمل، وإن كان مشروعًا، لن يتحقق إلا بثمن سياسي، وبإرادة جريئة تخرج عن منطقة الراحة والخطاب المناسباتي. فالإصلاح الحقيقي لا يُنجز بالنوايا ولا بالتصريحات، بل بتفكيك البُنى التقليدية التي كرّست الريع السياسي، وبالقطع مع منطق التوازنات الحزبية العقيمة.
المعادلة واضحة: لا إصلاح دون تضحية من النخب السياسية، ولا ديمقراطية دون مراجعة عميقة للسلوك الحزبي. الأحزاب، وخاصة تلك التي تستند إلى شرعية تاريخية، مدعوة اليوم لا إلى التنظير والتبرير، بل إلى اتخاذ قرارات صعبة: إعادة هيكلة داخلية، فتح الباب أمام الكفاءات الحقيقية، التخلي عن منطق “المرشح المضمون”، ووضع المصلحة العامة فوق أي اعتبار انتخابي أو فئوي. الصمت أو التسويف في هذه المرحلة ليسا حيادًا، بل تورطًا في تكريس الأزمة.
الاستمرار في تجاهل الأعطاب البنيوية داخل البرلمان لا يُهدد فقط مصداقية المؤسسة التشريعية، بل يفتح الباب واسعًا أمام مزيد من العزوف، والنفور الشعبي، وربما الانزلاق نحو أشكال تعبير بديلة، خارج الأطر المؤسسية. فحين يفقد المواطن ثقته في القنوات الديمقراطية، يصبح المجال مهيأ لكل السيناريوهات الممكنة، بما فيها تلك التي لا تخدم لا الدولة ولا استقرارها…
لذلك، فإن ورش الإصلاح لم يعد خيارًا ثانويا ومؤجلاً، بل ضرورة وطنية مستعجلة. المطلوب اليوم ليس فقط تجويد شروط الترشح أو وضع ضوابط تقنية للانتقاء، بل إعادة تعريف وظيفة الممثل البرلماني، وربطها بآليات صارمة للمساءلة والمحاسبة. فبدون كسر الحلقة المفرغة بين الامتيازات وانعدام الالتزام، لن يكون هناك لا أمل ولا ديمقراطية.
إذا أُريد لأفق 2026 أن يحمل دلالة تاريخية، فعلى الطبقة السياسية أن تعي أن الزمن لم يعد في صالحها، وأن استمرارها في التدبير بنفس الآليات المتآكلة لن يؤدي إلا إلى تعميق الهوة بينها وبين الشارع. الإصلاح الجذري وحده كفيل بإعادة بناء ثقة مهدورة، وفتح أفق جديد يُعيد للمواطن صوته، وللسياسة معناها.
أستاذ باحث في تدبير الموارد البشرية والذكاء الاستراتيجي بجامعة القاضي عياض، مراكش-