اقتصاد

تنامي نزاعات الدولة يُهدّد الاستثمار و”صياغة العقود” تعمق النزيف

تنامي نزاعات الدولة يُهدّد الاستثمار و”صياغة العقود” تعمق النزيف

بعدما دقّ الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، فوزي لقجع، ناقوس الخطر بشأن الكلفة الثقيلة التي باتت تتكبدها الدولة إثر منازعاتها، والتي بلغت 5.4 ملايير درهم خلال سنة واحدة فحسب (2023)، تُطرح تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء تراكم هذه النزاعات، خاصة وأنها تضعف ثقة المستثمرين في مناخ الأعمال والبيئة الاقتصادية الوطنية.

وتشكل المنازعات العمومية أحد أبرز التحديات التي تهدد ثقة الفاعلين الاقتصاديين في البيئة الاستثمارية، وخصوصا حين تتعلق هذه النزاعات بالصفقات العمومية التي تمثل الواجهة المباشرة للعلاقة بين الإدارة والمقاولة، يؤكد أستاذ الاقتصاد بالمعهد العالي للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، ادريس الفينة.

بالنسبة للخبير الاقتصادي، فإن سوء صياغة التعاقدات أحد العوامل المؤثرة بقوة في هذا السياق، إذ “من خلال تحليل معمق لعدد من الملفات القضائية المتعلقة بالنزاعات العمومية، يتبين أن جزءًا مهمًا منها لا يرتبط بإخلال فعلي بالتزامات العقد من طرف المقاولة، بل بتصرفات أحادية الجانب تتخذها الإدارة وتستند فيها إلى سلطتها التقديرية”.

غير أن هذه السلطة، التي يجب أن تكون محكومة بمبادئ الشرعية والتناسب، تُستعمل أحيانًا كغطاء لقرارات غير عقلانية أو غير قانونية بحسب الفينة، “فبدل أن تُمارَس هذه السلطة في إطار من التوازن والتفسير العادل للعقد، تتحول إلى أداة للهيمنة وفرض وجهة نظر الإدارة، مما يدفع المقاولات إلى سلوك المسطرة القضائية كملاذ أخير”.

وأضاف أن “القطاع العام، باعتباره أكبر فاعل اقتصادي وأول مستثمر بالبلاد، يجد نفسه في موقع مركزي في دينامية التعاقد والتنفيذ، مما يجعله عرضة لنزاعات متعددة ومعقدة مع المتعاملين من القطاع الخاص”. هذه النزاعات، وإن كانت في بعض الأحيان انعكاسًا طبيعيا لتضارب المصالح أو تعقيد الإنجاز، إلا أنها كثيرًا ما تكون نتيجة لاختلالات بنيوية تنبع من طبيعة القرار الإداري، وضعف الإطار التعاقدي، وسوء تدبير العلاقة مع المقاولة.

ويرى الفينة أن واقع الصفقات العمومية يبيّن في حالات كثيرة أن صياغة دفاتر الشروط تكون رديئة، سواء من حيث اللغة القانونية أو من حيث وضوح المعايير التقنية، “ففي العديد من العقود، يُلاحظ الغموض في تحديد نطاق الالتزام، أو التداخل بين البنود، أو غياب تحديد دقيق للجزاءات وآجال التنفيذ، مما يترك مجالاً واسعًا للتأويل ويخلق بيئة خصبة للنزاع عند أول اختلاف في التفسير أو تعثر في الإنجاز”.

وخلص إلى أن ضعف البنية التعاقدية يؤدي غالبًا إلى أزمة في التأويل، تتحول بدورها إلى أزمة ثقة، وقد تنتهي إلى القضاء الإداري أو التحكيم.

من جهة ثانية، اعتبر رئيس المركز المستقل للتحليلات الاستراتيجية أن مساطر الإسناد تلعب هي الأخرى دوراً في إنتاج المنازعات؛ “كثيرًا ما يتم إسناد الصفقات إلى مقاولات لا تتوفر على التجربة أو القدرة المالية والتقنية الكافية، إما بسبب التقييم الأحادي المبني على أقل عرض مالي، أو نتيجة اختلالات في عملية الانتقاء ذاتها”.

وأوضح أن هذا القصور في عملية الاختيار يُفرز شركاء غير مؤهلين، ما يؤدي في مراحل لاحقة إلى تأخير في الإنجاز، وتوقف في الأشغال، وإخلال ببنود العقد، وبالتالي إلى فتح أبواب النزاع مع الإدارة التي تجد نفسها أمام شريك عاجز عن الوفاء بالتزاماته، لكنها في ذات الوقت تتحمل مسؤولية سوء الانتقاء.

ونبه الخبير إلى أن الإدارة، وبالرغم من تراكم عدد كبير من القضايا ذات الطابع المتشابه، لا تقوم بتطوير قاعدة بيانات تحليلية تُعنى برصد وتحليل جذور المنازعات العمومية، بشكل يمكن من تطوير نماذج استباقية ومعايير للوقاية والتقنين.

“النزاع ليس فقط نتيجة لحدث عارض، بل هو مؤشر على اختلال عميق في أحد مكونات منظومة التعاقد: من التشريع، إلى الإسناد، إلى التفاوض، إلى الصياغة، ثم إلى المتابعة والتقييم. وغياب هذا التحليل التراكمي يحرم المؤسسات من فرصة ثمينة لتحسين أدائها التعاقدي وتقليص الكلفة القانونية والمالية للمنازعات”.

أما من حيث الآثار الاقتصادية، فحذر الفينا من أن النزاعات العمومية تُفرز مناخًا استثماريا يسوده التردد والخشية من المخاطر القانونية غير المتوقعة. فـ”المستثمر، حين يلاحظ أن الإدارة تدخل في نزاعات متكررة مع شركائها، وأن العقود لا تحظى بالاستقرار التفسيري والتنفيذي، يُعيد تقييم جاذبية السوق، وقد يتجه إلى مجالات أقل مخاطرة، حتى وإن كانت أقل ربحية. وهذا ما يشكل كلفة غير مباشرة على الإدارة، حيث تخسر ثقة المستثمرين وتُضعف من قدرتها التفاوضية في مشاريع كبرى مستقبلية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News