ثقافة

يفتقدون للجرأة.. الخوف من المواجهة يُغيّب مثقفي المغرب عن معارك المجتمع

يفتقدون للجرأة.. الخوف من المواجهة يُغيّب مثقفي المغرب عن معارك المجتمع

يُجمع فاعلون على أن المثقفين تنكروا إلى الوطن واختاروا العزلة والاحتماء في زوايا مظلمة، مع افتقادهم الجرأة والتنصل من أدوارهم، وذلك بعدما كان يُعول على المثقفين داخل المجتمع لمجابهة الأزمات وإبداء المواقف والآراء بشأنها، وفتح باب النقاش في قضايا سياسية واجتماعية وثقافية، للارتقاء بالمجتمع والانتصار إلى القيم الجماعية.

ويربط الفاعلون غياب دور المثقف عن الساحة الوطنية بالتحولات الصعبة التي يشهدها الحقل السياسي، والتراجع الذي عرفه هذا المجال في السنوات الأخيرة، على مستويات القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية، نتيجة لآليات الاشتغال الإديولوجي.

ويمارس بعض المثقفين الرقابة الذاتية على أنفسهم، مفضلين الابتعاد عن منطقة الخطر، وشراء الود مع السلطة، بعدما سعت هذه الأخيرة إلى وضعهم في عزلة، وفق آراء أكادميين.

المثقف ليس غائبا 

ويقول الباحث في التراث والكاتب والشاعر حسن نجمي، إن هناك مفهوما شائعا يتصور أن المثقف هو الكاتب والشاعر والأديب وبصفة عامة، هو المثقف الذي يكتب كتبا وينشرها، ويكتب في الصحافة وفي المجلات، والحال أن مفهوم المثقف أوسع من أن نحصره في مستوى الكتابة وحدها لأن الفنانين والمهندسين والأساتذة والصحافيين والإعلاميين، ورجال الدين، والذين تلقوا قدرا من التعليم الجامعي مثقفين لأنهم يتملكون جملة من المعارف، ولديهم رؤية معينة تجاه الواقع والعالم وتجاه أنفسهم.

ويرى نجمي في حديثه لـ”مدار21″، أن المثقف هو مفهوم شامل يهم عددا من التعبيرات والمهن والممارسات الإبداعية والفنية والفكرية والتربوية والإعلامية، والدينية وغيرها، مسجلا أن “المثقف بهذا المعنى الشامل ليس غائبا، بل على العكس هو موجود في الحياة اليومية والحياة تتحرك بفضل حضوره المتعدد”.

واعتبر الباحث المغربي، أن من يترحم على المثقفين أو يتشكى من غيابهم، هو المثقف تفسه، موردا: “لا أتصور أن مواطنا بسيطا محترما، مثل بائع النعناع أوالنجار أوالجزار في الحي يتساءل عن غياب المثقفين”. وشدد على “هذه التهمة لا أساس لها وهي تهمة باطلة غير مؤسسة تأسيسا دقيقا علميا واقعيا ومنطقيا”.

ويُصر نجمي على أن “المثقف موجود، وحاضر ويكفي الاطلاع على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى ما يُنشر في الصحف، وفي المجلات، والانتباه إلى عدد الكتب التي تنشر سنويا، ودور النشر التي لم تغلق أبوابها، وتنشر وتشتغل باستمرار بشكل يومي، متسائلا:  مع من تشتغل هذه الدور، إن لم تكن تعمل مع المثقفين، والطلبة الذين يتوجهون كل يوم إلى الجامعات من الذي يدرسهم، ويلقنهم المعارف الجديدة علمية وأدبية وفلسفية وتاريخية وجغرافية ودينية وغيرها؟.

جرأة المثقف

وعن غياب مواقف هذا المثقف وعدم انخراطه في النقاش العمومي، قال نجمي “أظن أن الذين يتساءلون عن غياب المثقفين يقصدون أولائك الذين يوجدون في كل مكان ويملأون الساحات والمؤسسات ويوجدون في كل مكان وزمان، ويمارسون المهن بأنواعها المختلفة والمتعددة، دون أن يقوموا بدورهم التنويري،مضيفا أنهم لم يعودوا يمتلكون الجرأة الأدبية والأخلاقية التي كانوا يتوفرون عليها في الماضي، وبالتالي لم يعد لهم تأثير في صناعة الرأي العام”.

وتابع المتحدث ذاته قائلا: “لم يعد لهم تأثير في اتخاذ المواقف، وفي اتخاذ القرارات التي تهم المجتمع، ولذلك يجد مثقف ما نفسه أمام قضايا إشكالية كبرى، وأمام قضايا سياسية وعسكرية كبرى مثل القضية الفلسطينية التي تجتاز لحظة استثنائية في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تاريخ الأمة العربية، دون تدخل”.

ولفت نجمي إلى  أن “المثقف الذي كان يرفع صوته بجرأة وبروح من الشجاعة السياسية والأخلاقية والأدبية، اختفى في الوقت الذي ينبغي أن يكون حاضرا كما كان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، في الوقت الذي لا ينبغي أن يظل فيه المثقف صامتا ويخفي رأسه في الرمال مثل النعامة”.

واستحضر الباحث المغربي في هذا السياق التحول العميق الذي حصل في الممارسة الثقافية وإنتاج الخطاب وظهور مجموعة من النظريات والمعارف الجديدة التي غيرت مفهوم الالتزام العام وبينه الالتزام السياسي، الذي لم يعد كما في الماضي.

وأردف: “فبعدما كنا نعيش مفهوم الالتزام مع جون بول سارتر عبر الفكري الوجودي، أصبحنا الآن نعيش في زمن فكري ونظري وفلسفي مختلف تماما، إذ لم يعد هناك تواصل، ولم يعد هناك اتصال بل أصبح الانفصال لغة العصر على مستوى علاقة المثقف بالواقع وعلاقة المثقف بالمثقف، وعلاقة المثقف بالخطاب والمعرفة.

وزاد شارحا: “أصبحنا أمام مثقفين يتكلمون لغة جديدة مغايرة، لا ينتصرون للقيم الجماعية، إذ أصبحت لغتهم أنيقة ومرهفة ولم تعد لغة المجابهة، ولغة خوض المعارك والانتصار للقيم الجماعية والانخراط في الروح القتالية للأمة العربية، وأصبحت اللغة التي كانت سائدة من قبل وتؤكد على التزام النخب الأدبية والفكرية والثقافية والفنية، تبدو لغة غريبة كما لو أنها تنتمي إلى عصر قديم متجاوز.

وسجل نجمي أن المثقف الذي يدافع عن أمته وطبقته الاجتماعية، وعن قضايا بلاده وشعبه، أصبح كما لو أنه خارج التغطية، مشيرا إلى أن “هذا الإحساس هو نتاج لآليات الاشتغال الإديولوجي والسياسي، وإنتاج لبعض المؤسسات الدعائية الغربية، اللبرالية والرأسمالية، التي تنتصر للرأسمالية واللبرالية المتوحشتين والفكرة الصهيونية”.

وأكد أن “المثقف موجود، لكن عليه أن يتحمل مسؤوليته التاريخية، أي أن ينخرط في أحداث عصره وفي تاريخ أمته وبلاده وشعبه، والمثقف موجود لأن عددا من الوزراء الذين يصدرون قرارات كل يوم هم مثقفون حملة للشاهادات العليا ويتقنون عدة لغات، والمهندسون مثقفون، القضاة والمحاماة مثقفون، نساء ورجالا من مختلف المهن العلمية والتربوية والمعرفية والدينية والسياسية هم مثقفون أيضا”.

موت الحركة النضالية

ويرى الأونثروبولوجي خالد مونة، أن غياب المثقف عن النقاش الثقافي، والسياسي بالأساس، مرتبط بحالة “الخنوع” التي بات  يعيشها الحقل السياسي بشكل عام، لكون المثقف دائما ما كان له ارتباط بالديناميات السياسية الحاصلة، وبخلفية إديولوجية داخل الأحزاب والعمل النقابي والتكثلات الفكرية، حيث تلاشت هذه البنيات التي تساهم في خلق نقاشات سياسية واجتماعية وثقافية.

وأرجع مونة في تصريح لجريدة “مدار21” هذا الغياب أيضا إلى طبيعة التحولات الحاصلة داخل الجامعة المغربية، والتي قال إنها  لم تعد تنتج “المثقف”، سيما أنها لا تعد مكانا للتدريس فقط، وإنما عرفت في مرحلة تاريخية في السيتينيات إلى آواخر التسعينيات زخما كبيرا على مستوى الفكر النضالي والحركة الطلابية، والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي لعب دورا كبيرا في بناء فكر المثقف، وشهدت على مشاركة المثقفين في النقاشات السياسية، مشيرا إلى أن “الجامعة التي كانت تتميز بحلقتين غابتا، حلقة طلابية وحلقة تعليمية تشكلان المثقف، وبموت الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والحركة النضالية داخل الجامعة، مات معها المثقف الجامعي”.

خداع السياسة 

بدوره نجمي، قال إن “الحقل السياسي أصبح “حقلا حقيرا” وتراجعت فيه القيم الفكرية والثقافية، وأصبح عدد من القادة السياسيين أميين، لا يتقنون اللغات ولا يقرؤون كتابا واحدا، ويكتفون بالصحف والأخبار الشفوية، والحلقيات، والمؤمرات، ويتصرفون على أساس أن السياسة مجرد لعب وتآمر وكذب وخداع ونفاق وليس كما كان يفعل العديد من القادة التاريخيين الحقيقيين الذين كانوا مثقفين حقيقيين، مثل علال الفاسي، محمد حسن الوزاني، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمان اليوسفي، وعبد الله إبراهيم، والمهدي بنبركة، الذين كانوا قادة حقييقين مثقفين يعرفون النظرية السياسية ويعرفون تطبيقها في الواقع، ويؤمنون بالواقع ويؤمنون بتغيير هذا الواقع ويشتغلون عليه”.

وواصل حديثه قائلا: “اليوم هناك عدد كبير من الفاعلين السياسيين في الساحة الوطنية الذين لم يعودوا قادرين على تحريك السواكن وعلى إقناع الجماهير وتعبئتها وتأطيرها، أي أصبحوا قاصرين عن أداء مهامهم الدستورية في تأطير المجتمع وتوجيهه، وتثقيفه وتكوينه، لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى من يثقفهم ويكونهم ويعيد تكوينهم وتربيتهم، وبالتالي فالمثقف موجود لكنه غائب في الوقت نفسه. وهذا سؤال مقلق وينبغي أن نقلق لهذا الوضع”.

الخوف من الحساب

ويرتبط فقدان الساحة الوطنية للمثقفين، بما يُسمى بـ”الماكرو سياسي”، والتحولات الحاصلة اليوم في المغرب، الذي دخل في مرحلة سياسية خطيرة تشهد على مرحلة “الإجماع”، أي إجماع الجميع على أمور معينة وقرارات سياسية، يضيف خالد مونة.

وتابع في السياق ذاته: “أصبح المثقف أو الأكاديمي يخشى المشاركة في القضايا السياسية بموقفه، خوفا من المحاسبة، سيما أن مواقع التواصل الاجتماعي تنقل هذه الآراء على نطاق واسع، ما يؤدي إلى الهجوم عليه من قبل جهات معروفة أو غير معروفة، سواء تلك المحسوبة على الجهاز الرسمي أو غير المحسوبة عليه”.

واستحضر السوسيولوجي خالد مونة قضية “إضراب رجال التعليم”، قائلا: “لم أقرأ مقالا واحدا من قبل سوسيولوجي متخصص في القضية يحلل هذا المعطى، والقليل ممن شاركوا مواقفهم كانوا يسيرون في اتجاه الدولة، والأمر نفسه بالنسبة لمدونة الأسرة وتقليص تكوين الطب”.

ولفت المتحدث ذاته، إلى أن المغرب “دخل مرحلة خطيرة يطبعها قمع الأصوات بطريقة غير مباشرة من جهة، وممارسة الرقابة الذاتية من جهة أخرى، مما أفرز لنا فراغ في الساحة”.

ويرى خالد مونة ، أن مستوى الحوارات الثقافية والسياسية والاجتماعية بالتلفزيون العمومي، تراجع في السنوات الأخيرة بخلاف فترة التسيعينيات وبداية الألفية، التي شهدت فيها القناتين الأولى والثانية برمجة حوارات سياسية ودينية حقيقية لم تتكرر في هذا الزمن.

وخلص الباحث السوسيولوجي، إلى أن أغلب الفاعلين السياسيين كانوا يحملون مرجعية جامعية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، قبل أن يتراجعوا عن الانخراط في الحياة السياسية بسبب الانتهازية وغياب المشروع عن الأحزاب، مضيفا: “بعدما كان للمثقف القدرة على نقل المعرفة الجامعية إلى العالم الخارجي عن طريق الإطارات الحزبية والنقابية، أصبحت هناك قطيعة، وأصبحت معها الجامعة مغلقة على ذاتها والأستاذ الجتمعي يشتغل على مساره العلمي وترقيته، ولا يشارك في النقاش العمومي، فالمثقف عُزل وانتهى به المطاف إلى عَزل نفسه بنفسه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News