رأي

بخصوص صناعة الخلاف

بخصوص صناعة الخلاف

أشياء كثيرة تحدث أمام أعيننا ولا نكترث إليها دائما أو على الأقل لا نكترث إليها بشكلٍ مبكر. الناس مذاهب والناس مشارب والناس أذواق وأشكال وأنواع. لا يمكن أن تدرك أبدا، جزئيا أو كلياً، كل ما يدور في صدور البشر، وبالتالي لا يمكن أن تفهم جل أو كل أو حتى القليل من تصرفاتهم. تختلف ردود الأفعال باختلاف البشر واختلاف الزمان والمكان، وكذلك الظروف الإجتماعية والإقتصادية والنفسية  في الكثير من الأحيان. بل هناك تصرفات لا يمكن استيعابها لأنها لا تخضع لهذه المقاييس ولكل المقاييس المتعارف عليها، ذلك لأن تركيبة البشر نفسها معقدة ومركبة، وتتغير بسرعة البرق ولأبسط الأمور، لا يعي بها صاحبها في معظم الأحوال، بل وتحيره، كونه يجد نفسه أمام سلوك غير اعتيادي، ولا يجد له في حينه ما يبرره.

فترى الناس تائهون وضائعون، ولا يعرفون ماذا يصنعون أو ماذا يختارون. لا يستطيعون الحسم في أي موقف أو قرار، لأن الأمور تبدو لهم غير مستقرة. فيستبد بهم الوضع ويدفعهم لاتخاذ قرارات لا يمكن أن تكون دائما صائبة، بل قد تكون أحيانا عليهم وعلى محيطهم القريب والبعيد، مصيبة. وضع يدفعهم لتبني موقف قد يكون مصيريا ويحدد معالم علاقة جديدة بينهم وبين من يدور في فلكهم. وضع يدفعهم لأن يكونوا ضد طبيعتهم الأولى، فتراهم يتحركون في كل الإتجاهات، بوعي أو بغير وعي، ليساهموا في صناعة الخلاف، خاصة عندما يشعرون بأن مصالحهم  تتعارض مع ما تسير عليه الأمور، أو يحسون بأن وضعهم مهدد، وقد يصاب بأذى أو بتغيير من أي نوع كان، أو فقط لعدم قدرتهم على بلوغ كل ما يسعون إلى تحقيقه أو ما يتوقون الوصول اليه، أو لأن الزمن ليس في جانبهم، فيسلكون الطريق المختصر والسهل، وهو صناعة الخلاف، إما ليخلقوا لأنفسهم مجالا للمناورة، أو للدفع بالآخر، الجاهل لمجريات الأمور، للإصطفاف إلى جانبهم، فيدعمهم ويسندهم، خاصة إذا كان لهذا الآخر خلاف أو اختلاف مع الشخص أو الأشخاص موضوع الخلاف.

هولاء يستغلون كل صغيرة وكبيرة، خاصة الإختلافات الطبيعية التي توجد بين الأفراد والجماعات، في المزاج وفي التفكير وفي المستوى الإقتصادي والإجتماعي والثقافي، بحكم انتمائها إلى مجتمع مبني أصلا على الفوارق وعلى تراتبيات، من أجل زرع بوادر خلاف يعتقدون أنه سيعود عليهم بنفع ما في وقت ما وفي مكان ما.

لسنا هنا بصدد الحديث عن الدول العظمى أوعن القوى العالمية الكبرى، التي تتخذ من صناعة الخلاف سياسة واستراتيجية لفرض المزيد من الهيمنة وبسط المزيد من النفوذ واستغلال أوسع لثروات الغير وتأثير أكبر في الأمم والشعوب الأخرى، لتلتف حولها وتتبنى نهجها وتؤازرها وتدافع عنها في المحافل المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية، سعيا منها لأن تنال من وراء موقفها هذا رضا هذه القوى العظمى، وتحقق مكاسب لفائدتها على مستويات عدة. وتتحكم بالتأكيد في هذا الأمر المصالح العليا لكل كيان وبلد، وتعتبر صناعة الخلاف من بين أهم وسائل تحقيقها والمحافظة عليها. الخلاف، في هذه الحالة، يصبح ضرورة سياسية من أجل البقاء في الواجهة وفي الريادة، وله شروطه، ومن بينها أن تكون الدولة قوية وذات نفوذ في المحافل الدولية، وتتمتع بتأثير لا نقاش فيه وكلمتها مسموعة بفعل قوتها الاقتصادية والسياسية والحربية وغيرها.

إن صناعة الخلاف فن أصبح يتقنه الجميع، لم يعد حكرا على الأذكياء أو الأقوياء فقط، أو ذوي خبرة راكموها على مر السنين. لقد أضحت هذه الصناعة ورقة بين أيادي كل من في قلبه حبة ذرة من بغض أو حقد أو حسد أو فقط عدم القدرة على تحقيق أدنى شيء في كل شيء. الفاشلون في كل شيء هم متزعمو هذه العقيدة التي أصبحت تشكل كل إيمانهم، باستحواذها المطلق على افئدتهم وضمائرهم، وتتحكم بالتالي في سلوكياتهم وتوجه تصرفاتهم. هوسهم الوحيد هو صناعة الخلاف والتفنن في ذلك، ويحرصون على أن لا يفتضح أمرهم وأن يكون تدبيرهم بالكثير من السرية، فتراهم يتعاملون بنفاق لا مثيل له لكي يتستروا على حيلهم ومكرهم. لكنهم في المقابل وفي غفلة من الجميع، يكتفون من اتصالاتهم مع من يعرفونهم على خلاف معك ليوشوشوا إليهم وينسبون إليك ما لا علاقة بك من  أقوال أو أفعال، محاولين اختلاق أدلة واهية قصد الإقناع والتأثير في ذلك.

هذه الفئة من البشر لا تذخر أدنى جهد ولا تفوت أية فرصة أو مناسبة في افتعال الخلاف أو تهيء الظروف المناسبة له. لا يهمها ما سيترتب عن أفعالها المشينة من اختلالات اجتماعية، لأن الخلاف بالنسبة إليها يعتبر الوضع الطبيعي الذي يمكن أن تبرر فيه وبه وجودها، وتبرز فيه مؤهلاتها وقدراتها. هي فئة تحب المناورة والمجازفة بكل شيء وفي كل شيء. فئة تحب أن تصطاد في الماء العكر وتجيد ذلك. بل وتعتبره متنفسها الوحيد، وكل ما تقوم به يجب أن يسير في اتجاه تحقيق مزيد من الخلاف.

غير أن هذه الفئة من البشر تعيش ازدواجية في كل شيء: في المعايير وفي الحياة وفي الإختيار وفي التفكير؛ وهي ازدواجية غير سليمة وغير منسجمة وغير متناغمة الأطراف، وبالتالي تجعل الفئة المذكورة في حرب نفسية مع ذاتها، فتراها تتخبط عشواء ولا تستطيع الحسم في أي شيء، مخافة أن يفتضح أمرها، وأن يتبين الناس والمجتمع مكيدتها ونهجها المشين، فتندحر وتسقط هيبتها وتتدنى المكانة التي كانت تحظى بها. هذه الفئة لا تجد أبدا الطريق نحو سلم داخلي، ضروري لحياة هادئة ومسالمة. وتجوز تسميتها بكل بساطة ب”المعذبون في الأرض”. فتستمر في صناعة الخلاف وتحاول أن تجتهد في ذلك بابتداع وسائل وطرق جديدة للتمويه والتضليل من أجل بلوغ أهدافها غير المعلنة، وبالتالي الحفاظ على نفس الوضع والمكانة والحالة التي تعتقد أنها تتمتع بها، رغم أنها تعرف أنها، أي المكانة، هشة، ولا يمكن أن تستمر أو تدوم لفترة طويلة، لأنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

تعليقات الزوار ( 1 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News