رأي

أزمة التعليم:  بؤر الأزمة ومداخل الحل

أزمة التعليم:  بؤر الأزمة ومداخل الحل

بعد مرور شهرين من الجمود الدراسي و التحصيلي لما يقرب ثمانية ملايين تلميذ،  بسبب سلسلة من إضرابات رجال و نساء التربية و التعليم أملتها مطالب عادلة و مشروعة، والتي  جاءت بعد  سنة و نصف من الحوار الاجتماعي  في قطاع التربية الوطنية، يبدو أن الوقت قد حان لتقديم حلول واضحة و دقيقة و حاسمة في هذا الملف. فحتى و إن افترضنا أن النظام الأساسي لموظفي التعليم الذي يشكل  البؤرة الرئيسية لهذا الزلزال الغير مسبوق نظام عادل و محفز (أطروحة الوزارة)، فقد أصبح الآن نظاما غير ناجع ، بالنظر لتكلفته التنموية  الباهضة المتوقعة مقارنة بما يمكن أن يكون له من مزايا أو إيجابيات.

فالتقييم العلمي و الموضوعي من مؤسسات وطنية  محترمة كالمجلس الإقتصادي  و الاجتماعي و البيئي لتكلفة هذه الأزمة أو الفوضى التي أفضى إليها هذا النظام الأساسي ، من شأنه أن يوضح لنا التداعيات التربوية والاجتماعية و الاقتصادية و النفسية و السياسية الحالية و المستقبلية لهذه  الأزمة. لم يعد المجال يسمح الآن  بالحديث عن الصيغ القانونية الممكنة لإعادة النظام الأساسي إلى طاولة النقاش، بقدر ما يجب التفكير في التحرك الآني و السريع و الفعال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالدستور الذي هو أسمى نص تشريعي خضع بدوره لخمس مراجعات، ووضع على الطاولة من جديد بما تمليه التحولات الاجتماعية و السياسية . أما النظام الأساسي فهو مجرد مرسوم يدخل في المجال التنظيمي، ويؤطر مهن التربية و التكوين، لا يمكن في جميع الأحوال أن يضع الاستقرار الاجتماعي و السياسي على كف عفريت.

أولا: بؤر الأزمة

  • أزمة الثقة:

من المعروف أن الثقة بناء اجتماعي و ليست معطى، لذلك فتآكل رصيد  الثقة بين المكونات الثلاثة الرئيسية في هذه الأزمة(الحكومة، النقابات، رجال و نساء التعليم) هو نتاج مسار و مسلسل من الإخفاقات و الخيبات في هذا المجال، مما جعل أزمة الثقة أزمة مركبة متشابكة الأبعاد. و يندرج في هذا الإطار تنصل الحكومات المتعاقبة و الحكومة الحالية من تفعيل الإلتزامات المرتبطة ببعض الاتفاقات (اتفاق 26 أبريل 2011، اتفاق 18 يناير 2022…)، وضعف أداء المركزيات النقابية في الترافع و التفاوض حول القضايا و الملفات الحارقة لقطاع التعليم. فرجال و نساء التعليم يتهمون النقابات بالاستفادة من الريع و خدمة المصالح الخاصة لزعمائها . إن اعتماد النظام الأساسي الجديد لموظفي القطاع كان بمثابة المحطة التي استنزفت رصيد الثقة المتآكل في الأصل بين النقابات التعليمية و شغيلة القطاع، فسرعان ما يكتشف كل قارئ غير مختص لهذه الوثيقة أن الفاعل الرئيسي في أي إصلاح تربوي وجد مع كامل الأسف على هامش مقتضيات النص.  كما أن النقابات المشاركة في بناء هذا النص التزمت صمتا غريبا و مريبا بين لحظة مصادقة المجلس الحكومي  على المرسوم 2.23.819 و لحظة نشر المرسوم في الجريدة الرسمية. إن المثير للانتباه في هذا السياق هو أن هذه المركزيات النقابية فقدت ثقة تمثيلياتها الجهوية و الإقليمية الي انقلبت على توجيهاتها وانخرطت في نضالات و احتجاجات رجال و نساء التعليم.

لقد أفضى تنصل الحكومة الحالية من أحد الالتزامات الرئيسية في برنامجها الحكومي ، الذي يعتبر التصويت عليه بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب شرطا دستوريا لتنصيب الحكومة،إلى فقدان الثقة و التوجس من كافة الإجراءات التي تعلن عنها هذه الأخيرة. فالبرنامج ربط تعزيز جاذبية مهنة التدريس و إعادة الاعتبار إليها بضرورة إقرار زيادة صافية تصل إلى 2500 درهم شهريا للمدرسين، ولا شيء من ذلك تحقق .

أزمة الحوار: شرعية النقابات و مشروعية التنسيقيات

انعكست أزمة الثقة على محددات الحوار وشروطه و مخرجاته كذلك، بشكل جعل النقابات و كأنها تغرد خارج السرب بعد كل جلسة حوار. فإذا كانت التمثيليات النقابية تتمتع بشرعية دستورية و قانونية فمشكلتها اليوم مشكلة مشروعية Légitimité، ففي الوقت الذي تعتبرها الحكومة مخاطبها المباشر و الوحيد في الحوار ، يبدو أن هذه النقابات فقدت مقبوليتها لدى شغيلة التعليم، فأصبحنا أمام  واقع انشطاري غريب بين نقابات ذات شرعية قانونية عاجزة عن احتواء وضع تمسك التنسيقيات بخيوطه السميكة. إن انهيار مؤسسات الوساطة يحول دون قيامها بأدوارها الرئيسية  كما يجعل أفق  اقتراح حلول للأزمات السياسية و الاجتماعية أكثر تعقيدا.

أزمة التواصل السياسي

ظلت لعنة ضعف التواصل السياسي ملازمة للحكومة الحالية منذ بداية  ولايتها، فقد ظهر منذ الوهلة الأولى ضعف قدرة الوزارة على الدفاع عن النظام الأساسي المثير للجدل  من خلال خرجات زادت الوضع تعقيدا (تحسين الأجر من خلال تصحيح أوراق الامتحانات، الدفاع عن هيبة الدولة و عدم لي ذراعها…). يمكن القول كذلك أن قرار تعليق العمل بالنظام الأساسي  الذي اتخذته الحكومة بمعية النقابات في اجتماع الاثنين الماضي لم يسلم من هذه اللعنة. فرئاسة الحكومة لم تكلف نفسها إصدار بلاغ  واضح حول مخرجات هذا الاجتماع ، كما لم تبادر وزارة التربية الوطنية و التعليم الأولي و الرياضة إلى إصدار بلاغ بخصوص تعليق العمل بالنظام الأساسي و بداية الاشتغال على التعديلات الضرورية و الملحة لمقتضياته .فمن شأن ه الخطوة أن تكون مدخلا لتطمين المحتجين في انتظار قرارات أخرى تضع حدا لهذه الأزمة.

ثانيا: مداخل الحل

إشراك النقابات الخمس الأكثر تمثيلية

لم يعد مستساغا إقصاء أية نقابة من النقابات الخمس الأكثر تمثيلية ، فعدم دعوة النقابة الوطنية للتعليم (التوجه الديموقراطي) إلى طاولة الحوار أصبح أمرا غير مقبول قانونيا وواقعيا، بالنظر إلى أن تجاوز مأزق اليوم يقتضي تجاوز مرجعية اتفاق 14 يناير 2023 و اعتماد القانون الإطار لمنظومة التربية و التكوين والبحث العلمي الصادر سنة 2019 كأساس قانوني لتأطير الحوار و كذا التعديلات المرتقبة للنظام الأساسي . هذا القانون الذي جاء ليضمن استمرارية الإصلاح و إلزامية مقتضياته لجميع الفاعلين و الأطراف، قبل أن نكتشف أنه أصبح في حكم النسيان مع نسيان حافظة المشاريع الي جاءت لتنزيله و التأخر في إصدار النصوص القانونية الضرورية لأجرأة مضامينه. ومن أهم  مبادئ ومرتكزات هذا القانون، اعتبار الاستثمار في منظومة التربية و التكوين استثمارا منتجا في الرأسمال البشري ورافعة للتنمية المستدامة و دعامة أساسية للنموذج التنموي للبلاد. لا بد من الإشارة كذلك إلى أن النقابة المذكورة يمكن أن تكون صوتا معبرا قويا عن مطالب تنسيقيات وفئات متعددة.

إعادة النظر في التواصل حول مخرجات الحوار

يبدو أن هناك خللا كبيرا يتعلق بالتواصل حول مخرجات حوارات الحكومة أو الوزارة الوصية على القطاع مع النقابات فما الذي يبرر مثلا غياب أي إعلان أو بلاغ رسمي من الوزارة يعلن عن تعليق العمل بالنظام الأساسي الجديد، و عن الالتزام بتعديله مع ممثلي الشغيلة في أفق زمني محدد و مضبوط . فالتجميد كإجراء تقني و ليس قانوني يحتاج إلى ضمانات و تطمينات، كما أن تعديل المرسوم المعلوم  و نسخ بعضه أو كله بمرسوم جديد لا يمكن أن يتم بين عشية و ضحاها، بالنظر إلى التوترات و الإشكالات التي يتضمنها. فبدل قرار التجميد ، يمكن أن نكون أمام وضع هجين آخر يشتغل فيه النص بالموازاة  مع خطوات تعديله.

اتخاذ تدابير و قرارات حاسمة

من الضروري التفكير في اتخاذ قرارات حاسمة ومستعجلة و ناجعة في وضع حد للأزمة قبل الشروع في تعديلات النظام الأساسي، و فيما يلي بعض المقترحات:

-إصدار بلاغ واضح من الوزارة يفيد بتعليق العمل بالنظام الأساسي الجديد و الشروع في إجراءات تعديله و تحديد أفق زمني لذلك.

-إقرار زيادة محترمة في أجور نساء و رجال التعليم بما لا يقل عن وعود البرنامج الحكومي، و التصريح بجدولة زمنية واضحة لها إن اقتضى الأمر.

– إصدار قرار  بتحديد ساعات العمل في الأسلاك التعليمية الثلاث

-إصدار القرار المتعلق بتدقيق و تفصيل المهام و الإقرار بالتعويض عن أي مهام إضافية لا تندرج ضمن مهام التدريس.

-إصدار مرسوم يقضي بإحداث تعويضات تكميلية لفائدة المدرسين ، و مرسوم آخر يتعلق بنسخ المادة 64 من النظام الأساسي و المتعلقة بالعقوبات التأديبية ، مما سيبقي تلقائيا النظام التأديبي لقانون الوظيفة العمومية ساري المفعول على موظفي القطاع.

 باحث في القانون الدستوري و علم السياسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News