رأي

قراءة للتوجيه الملكي الافتتاحي للبرلمان

قراءة للتوجيه الملكي الافتتاحي للبرلمان

يعتبر الخطاب الدستوري الملكي الافتتاحي لأول دورة برسم السنة التشريعية الثالثة محددا حاسما لبوصلة الأداء البرلماني والحكومي المقبل، بحكم كونه ينبع من السلطة التمثيلية العليا للأمة في المملكة وكاشفا متجددا للرؤية الرسمية السامية، وعلى أساسه سيتم تحديد أولويات الأجندة التشريعية والرقابية والتقييمية والديبلوماسية البرلمانية برسم الدخول البرلماني الجديد وما تقتضيه من تعاون حقيقي وتوافق جماعي مثمر يواكب مختلف الانتظارات الكبرى للوطن والمواطنات والمواطنين، مع تركيز الاجتهاد والاشتغال عليها، خارج معادلة حساب التصويت البرلماني وبغض النظر عن كل خلفية حزبية سياسية ومصلحية برلمانية ظرفية.

كما يستتبع ذلك معه التأكيد على أهمية التحلي بروح الجدية والحرص الشديد على استثمار المضامين التوجيهية الملزمة الواردة فيه، باعتبارها قواعد مرجعية سامية في رسم معالم الإنتاج التشريعي، ومنه مشروع قانون المالية والميزانيات الفرعية، وبلورة مخططات وبرامج العمل الحكومي السنوي، بما يقترن معه من مسؤولية جسيمة للبرلمان في مراقبتها السياسية وتقييم وتقويم وتجويد أدائها . دون إغفال إثارة أهمية تفعيل وتعزيز مسؤولية القوى المدنية المواطنة والمبادرة والمنابر والمواقع الإعلامية الضاغطة والمؤثرة في هذا المضمار.

ومن المعلوم أن هذا التوجيه الملكي السنوي اقترن بما صاحبه من خصوصية بروتوكولية وهبة معززة لرصيد رمزية شرعية دستورية سامية متجددة وراسخة، لأن جلالة الملك يلقي فيه خطاب يوجه فيه العمل البرلماني والحكومي وينتقده في عدة حالات، أخذا بعين الاعتبار عدم إغفال ملاحظة دقة كبيرة موجهة في جودة اختيار الآيات القرآنية التي تليت في حظرة تقديم خطاب جلالته بعد تلاوتها وذكر آية في غاية عبرتها في فحوى المنطوق الملكي السامي. إذ يمكن تبيان رسالة لدلالات القرآن المتلى في أهمية التحلي بنظور إيجابي يقوم على توظيف المكروه والمفقود للعيش بالنعمة الكامنة والحياة المتجددة.

ومن خلال استقراء مضامين التوجيه الملكي الوارد في فحوى خطاب افتتاح الدورة الأولى برسم السنة التشريعية، يمكن الإحالة إلى بعدين أساسيين، أولهما بعد تقييمي جامع لسياق الدخول البرلماني الجديد (أولا)، وثانيهما بعد استشرافي حاسم وموجه لأوراش التدبير العمومي والأداء الحكومي والبرلماني بما يقتضي جودة في تفعيل الرؤية الملكية القائمة على نهح الجدية والعمل المتفاني لخدمة الوطن والمواطن (ثانيا).

أولا: فمن جهة زاوية البعد التقييمي الملكي لسياق هذه المرحلة الاستثنائية استثنائية بنقط فرصها وتهديداتها عناصر قوتها ومكتسباتها وكونها جاءت بعد زلزال الحوز وفي بيئة عالمية مضطربة انطلق التوجيه الملكي من أرضية فلسفية أصيلة باستحضاره قوة الإرادة الربانية في التدبير والتحلي بالصبر وجودة التدبير البشري.

وتبعا للتوجيه المذكور فان بلوغ هدف الجدية التدبيرية يكمن في القدرة على التكيف وتحويل الدمار والخسارة إلى بناء وإعادة الإعمار وتقريب الخدمات العمومية مع ضرورة استصحاب ومواصلة تثمين مختلف عناصر قوة قيم وهوية إيجابية موحدة وبانية للنموذج المغربي والمتمثلة على وجه التحديد في:

1- معايير القيم الدينية والروحية المثمرة للسلوك الوسطي المنفتح على روح العصر والمجددة بمذهبية مالكية مقاصدية في فضاء تعايش حضاري سلمي متفرد وحاضن لحرية الانتماء الديني والفكري.

2- معايير القيم المغربية الوطنية المواطنة والمجسدة دوما لتلاحم راسخ ومتواصل بين الملك والشعب وعمق تجذر البيعة التاريخية المتفردة.

3- معايير القيم المدنية التضامنية المنجزة لمظاهر التضامن العفوي والتماسك الاجتماعي والتعاون على مواجهة المحن والعقبات لبناء المجتمع وتقدمه.

ثانيا: أما بخصوص الزاوية الاستشارافية للتوجيه الملكي الجديد، فيمكن عرضها بصفة إجمالية كما يلي:

1- ورش مراجعة مدونة الأسرة، حيث ورد التذكير بالرسالة الملكية الأخيرة التي سبق لجلالته توجيهها لرئيس الحكومة في شأن هذا الموضوع، إذ يمكن استخلاص استمرارية تأكيد الحرص الملكي على مسعى التقيد التشريحي الاصلاحي المقبل بمرجعية الهوية المغربية الموحدة للنظر والحسم في القضايا الخلافية المعروضة حول المدونة، كما يثير أهمية كبرى ومسؤولية جسيمة تنتظر البرلمان، باعتباره سيكون معني بشكل جدي في احتضان مرحلة مهمة وحاسمة من نقاش مؤسساتي لمراجعة هذه المدونة والتصويت عليها. إذ سيكون معني بشرعنة المقتضيات التقدمية المتوقعة في المدونة في تكامل تام وانسجام مع الهوية الوطنية والدينية والتأويل الذهبي المالكي بشأن القضايا المثارة بشأنها.

2- ورش تعميم الحماية الاجتماعية كدعامة أساسية للنموذج الاجتماعي والتنموي الوطني، حيث حرص التوجيه الملكي على توجيه السلطات العمومية للشروع في تفعيل الدعم المباشر للأسر الفقيرة المستهدفة بناء على بنك معطيات السجل الاجتماعي الموحد ، مع الدعوة إلى عدم الاقتصار على التعويضات العائلية وتوسيع الدعم لمجالات أخرى كدعم تمدرس الأبناء و الإعاقة والاطفال والأطفال حديثي الولادة.

كما يتضمن التوجيه رسالة شفافة مباشرة ملزمة لها بشأن تنفيذ الدعم الاجتماعي بانسجام تام مع قانون إطار الحماية الاجتماعية ووفق معايير الشفافية والتضامن مع تفعيل العقلنة الضرورية لمختلف برامج الدعم الاجتماعي والسهر على تحقيق استدامة تمويل هذا النظام وتأمين تحقق حكامته الجيدة. مع إثارة مسؤولية البرلمان المهمة في تحقيق المواكبة المستمرة لهذا الورش وتقييم الأداء الحكومي بشأنه.

3- ورش إعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال وتنميتها، حيث تبرز أهمية مواصلة مبادرات التعاون والتضامن المدني والعمومي مع هذه المناطق، لاسيما مع اقتراب موعد الشتاء والبرد، وتفعيل برنامج إعادة إعمارها وتقريب الخدمات العمومية لها.

وفي هذا الصدد يجدر استخلاص العبرة من فاجعة الزلزال بالعمل على إطلاق مبادرات تنموية حقيقية لمعالجة التفاوتات المجالية والترابية التي فضحتها هذه الفاجعة.

كما نثير من زاوية معينة رائجة التحلي بروح الجدية والمبادرة المواطنة لتشكيل لجنة لتقصي الحقائق أو في بالمستوى الرقابي الأدنى تشكيل مهمة استطلاعية بشأن صندوق التنمية القروية بمنظور إيجابي يروم السعي إبداع اقتراحات جادة للنهوض بالعالم القروي والجبلي وتعزيز فرص تنمية وتأهيل المغرب العميق.

وصفوة القول، فإن النظر في كل زوايا التوجيه الملكي الافتتاحي للبرلمان برسم سنته الثالثة من ولايته التشريعية الجارية لا يمكن إلا أن يثير من زاوية أخرى مسؤولية التحلي الحكومي والبرلماني بروح الجدية ومضاعفة الأداء لتعزيز التفاعل المنتح في مختلف الأوراش المفتوحة ومعالجة زوايا التفاوتات المجالية والترابية والاجتماعية والتجاوب مع انتظارات وتطلعات مجتمعية متعددة ، وذلك يستوجب إبداع حلول ملموسة ومبادرات تشريعية ورقابية وتقييمية ناجعة، مع النظر النقدي المتواصل في زوايا “صورة البرلمان والحكومة” وملاءمة مستويات سرعتهما، الجارية عموما بمتتالية حسابية، مع مستويات ونجاعة السرعة والجدية الملكية ومواكبتها المتواصلة والموجهة للمسؤولية خدمة الوطن ومعالجة هموم الشعب بمتتالية هندسية لأن الأمر يهم قضايا حيوية وملحة، لم تعد تقبل مزيدا من الانتظار.

* باحث في القانون الدستوري والبرلماني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News