رأي

رسائل قد أكون كتبتها

رسائل قد أكون كتبتها

كثيرة هي الأشياء والصور التي نكتبها أو ننقشها في ذاكرتنا، حيث هي كراستنا التي لا تفارقنا، هي المذكرة التي نرسم فيها كلمات تخطر ببالنا في أوقات معينة. نكتب القليل منها بطبيعة الحال بخط أيادينا أو بالآلة الراقنة أو في الحاسوب أو في هواتفنا ولوحاتنا الإلكترونية. لا يمكن ولا نستطيع أن ندون فيها كل أحاسيسنا أو ما يختلج صدورنا من الأفكار الكثيرة، التي تكتسح في كل لحظة وحين ذاكرتنا وعقولنا. العقل البشري لا يتوقف أبدا عن التفكير، حتى في أوقات النوم. لكننا نعجز لغويا عن مواكبة هذا الزخم من الأفكار التي تمر بأذهاننا وتضيع في الغالب مع الأسف. في المقابل، ولحسن الحظ، الأفكار نفسها تبقى مخزنة في ذاكرتنا رغم أننا نعتقد أنها ضاعت وانمحت وتلاشت إلى غير رجعة.

صحيح أننا لا نتذكرها بكل تفاصيلها عند ولادتها الأولى في أذهاننا، لكن ما تبقى من ذكراها قد يكفي لنسج قصة أو حكاية أو إعادة بناءها من منطلق معرفتنا بمضمونها أو بظروف بروزها أو ما شابه ذلك. لذلك نكون قد كتبنا أشياء كثيرة ومتنوعة خلال مسارنا في الحياة. أشياء بودنا أن نجهر بها، وأخرى لا نجرؤ حتى على استحضارها في أذهاننا … وهناك أشياء كنا نريد أن نقولها ليس لأنفسنا فقط، بل لغيرنا، لأنها موجهة إليه، نريد أن يسمعها أو يقرأها ولو بالصدفة.

في ذاكرتي أحتفظ بالكثير من هذه الرسائل. هناك بلا شك من سيقرأها بدلا عنهم إن هم لم يتمكنوا لسبب أو لآخر من قراءتها. لكن أريدها أن تصل إليهم، إلى هؤلاء الأشخاص حتى لو هم الآن جاثمين في قبورهم، في وحشة قبورهم، ينتظرون اليوم الموعود، فتنجلي سوداوية لحودهم ويلقون ربهم يوم لا ينفع مال ولا بنون…
الرسالة الأولى: إلى

من منا لا توجد لديه أشياء، كثيرة، يريد أن يوجهها لنفسه، لنفسه قبل غيره. أشياء عامة، غير محددة. في أوقات عديدة معينة ينتابني شعور بالحاجة إلى أن أكون مع ذاتي، أن أختلي بها فأبوح لها بأسرار أو أحاسيس أو أفكار. أحيانا أخرى أرغب في معاتبتها ومؤاخذتها أو انتقادها على خطوات أقدمت عليها أو خيارات قمت بها أو مواقف اتخذتها طوعا أو كرها تأكد فيما بعد أنها لم تكن محسوبة رغم أنني أتفهم أن سياقها العام آنذاك يقدم ألف مبرر على اتخاذها. سأكون بطبيعة الحال رحيما ومتسامحا في هذه الحالات.

أريد أن أحدثها عن ضعفها في أوقات كان عليها أن تكون قوية وشجاعة، وعن قوة وصلابة في أوقات أخرى كان عليها أن تكون أكثر ليونة ومرونة، بل متسامحة مستسلمة متنازلة. أريد أن تسمعني، أن تصغي إلي ولو مرة واحدة وبعدها هي حرة، تذهب في الطريق الذي يحلو لها دون تأثير أو قيد.

كم مرة كلمتك في صمت، وهمست لك بكلمات رناتها لا تزال تصل إلى أذناي بصورة رهيبة. كنت أقول لك أشياء تعتقدين في وقتها أنها خارج السياق أو ترهات وحماقات، أو أحيانا أشياء جد معقولة لا يمكن أن تجد لها مكانا في واقعنا، أشياء خيالية أو جد مثالية.

تبدين صعبة وتعقدين الأمور في الكثير من الأحيان ولينة إلى درجة الاستهتار في أحايين أخرى. وتخيفينني. استغرب أنك في مرات عديدة تطاوعينني في بعض الخيارات، غير المدروسة وغير المحسوبة العواقب خصوصا. أعني هنا خيارات ذاتية، أثرت بشكل كبير فيما سيتبعها من خيارات ومسارات حياتية وأصبح من الصعب الرجوع إلى الوراء لتغييرها. وأصبحت بذلك نقطة تحول من مسار كان سيكون إلى مسار جديد هيمن وعم وساد رغما عن كل شيء. استغربت كثيرا لحيادك في أوقات أخرى، نوع من اللامبالاة أو التهرب من تحمل المسؤولية أو عدم الاكتراث بما سأقدم عليه من خطوات، ربما لأنك لست مقتنعة بها أوتعرفين مدى تشبتي بها، فأنت لاتريدين إحراجي، فتنصرفين في هدوء، وتتركينني وحيدا أمام خياراتي، فأتحمل عواقبها. أو أن الموضوع لا يعنيك وتفضلين الحياد السلبي التام.

صحيح أنني اليوم صرت ما كان يجب أن أصيره، أي أن أكون نتاج تلك السيرورة، التي مهما قلنا عنها وفيها، فهي في نهاية المطاف سيرورة حياتي، وها أنا الآن أسير فيها كما كنت في السابق وأنا بالطبع راض عنها رغم كل تلك الأشياء التي لم ترقني فيها، وهذا تصرف عادي قد لا يختلف عنه إثنان. الإنسان كما يقال ابن بيئته من حيث منتجها ومنتجها. أي يساهم ويؤثر فيها لكنه أيضا يتأثر بها ويتحمل تبعاتها.

غير أن هناك خيارات لم نقم بها فوجدنا فيها أنفسنا بقوة التقاليد والعادات وقوة الأشياء ومنطقها بحكم بيئتك التي ولدت وترعرعت فيها وكبرت وتعلمت فيها أولى أبجديات اللغة والحياة. وكل المطلوب منك آنذاك هو القبول والإصغاء والطاعة والتنفيذ. تنفيذ ما يريده أبواك أو بالأحرى ما تمليه وتفرضه البيئة التي توجدون فيها كلكم، الآباء وأنت وكذا أطفال القرية من أمثالك إسوة بالطبع بباقي الدواوير والقرى والبلدات. الجميع يقبل ويكرس نفس الوضع لأنه أثبت بالنسبة للمتحكمين فيه نجاحه ونجاعته غير خاضعة للنقاش ولا للتشكيك. العادات والتقاليد وآراء الناس ووضع الإنسان داخل هذه المنظومة تشبه أخطبوطا لا يمكن التخلص منه بسهولة.

لذلك فأنت تلجأ الى الحيلة والتحايل لأنك لم تكن يوما متقبلا وكنت في قرارة نفسك رافضا لها، لكن لم تكن لديك القدرة الكافية للتعبير عن هذا الرفض. فكنت تعيش رفضك بجوارحك ومن داخلك ولا تبوح به لأحد. هذا الرفض الذي قد يخلق متاعب جمة، سواء داخل الأسرة أو في القبيلة. قيمة الفرد كما هو سائد ربما إلى يومنا الراهن يستمدها من انتمائه وإلى تموقعه داخل المجموعة ، حتى لو لم تكن هذه الجماعة تقدم له شيئا، يكفيه أنها تشعره بالأمان وتمنحه الطمأنينة والحماية والاحتواء. كم من شخص يحس أنه منبوذ ومقصي فقط لأنه عارض أو أبدى موقفا مخالفا لما هو سائد ومتعارف عليه ومعمول به، وكأنه قرآن منزل لا يمكن تغييره أو تحريفه.

تمرد داخلي لم يجد له طريقا بعد أو أبدا ليعبر عن نفسه إلا في مرات محدودة وأعتقد أنه باء بالفشل. تمرد سلبي من حيث لم يجد له إمدادا في الواقع ولا في المسار لكنك شعرت به وتحسست وجوده فيك، وهذا يعطي معنى آخر لشعورك بالوجود لكنه أيضا وفي نفس الوقف يذكرك أن الانتماء أقوى من أي شعور خاصة في بيئة مثل البيئة التي ترعرعت فيها، تلغي وتهمش وتقصي كل من سولت له نفسه التعبير بأي شكل كان عن رفضه للقواعد المتعارف عليها والتي أصبحت مقدسة ويجب أن ينحني لها ويحترمها الجميع حتى وإن كانت تتعارض ومواقفه، المتغيرة منها والثابتة. أنت في كل الحالات كنت طفلا صغيرا وقاصرا ليس فقط في عمرك بل في عقلك، هكذا ينظر عموما إلى صغار السن في تلك الأوقات مقارنة بما هو عليه الحال اليوم، إذ يشاع أن “أولاد اليوم قافزين وعارفين كل شيء”، أي لا تنطوي عليهم أية حيلة. وفي هذا الحكم قساوة وظلم للإثنين، أعتقد.

الطفل الذي كنته كان واعيا بالكثير من الأشياء لكنه يحتفظ بها لنفسه. وهو تقليد وعادة ماتزال تمارسها إلى اليوم. ربما وجدت فيها ما يريحك ويبعد عنك الهموم. السكوت أحيانا نعمة لا تقدر بثمن، لا سيما إن كان سيحقق السلم الداخلي والذاتي ويبعد عنك متاهات أنت في غنى عنها.

الطفل الذي كنته كانت عيناه متفتحان، فلا يضيع أبدا لحظة أو يفوت فرصة ليشاهد ويرى ويعاين سواء بالصدفة والعفوية أو بنية مسبقة لتقصي الأمور والإطلاع على مجريات أشياء تقع في مداره. الحياة نأخذها كما يحلو لنا ليس كما تقدم لنا، بل يجب أن تأخذ كما هي.

اللعب ولا شيء غير اللعب هو كل ما يستهوي الصغار وأنا أيضا رغم أن مساحته كانت مع توالي الأيام والسنين تتضاءل بفعل تزايد حاجة أبي إلى خدماتي أو بالأحرى إلى مساعدتي بجانب إخوتي خاصة في الأمور والأعمال الروتينية والبسيطة عندما لا نذهب إلى المدرسة أو إلى الكتًاب– الجما أو تمزكيدا بالأمازيغية المحلية. كان لابد من استغلال كل الفرص المتاحة وافتعال بعضها الآخر، لأن الطفولة بدون لعب تعتبر لا محالة طفولة مغتصبة. مع المسافة الزمنية أستطيع أن أقول إنها إلى حد ما كانت طفولة مغتصبة، بحيث كان يكتنفها الكثير من الحرمان. كل ما كنا نفعله كان محددا في الزمن بسبب ضيق الوقت من جهة، وبسبب الجو العام المحافظ السائد في الدوار وفي البيئة الجبيلة برمتها، من جهة أخرى.

لدي انطباع الآن أن كبار الرجال آنذاك كانوا ربما يعتقدون أنهم ولدوا كبارا، وكأنهم لم يمروا بهذه الفترة المهمة والعصيبة من حياة أي كائن بشري، بل حتى صغار الحيوانات كنا نراها ونستمتع بما تقوم بها من حركات تدخل ضمن منظومة اللعب واللهو والتسلية المتعارف بينها سواء فيما بين الصغار والكبار أو فيما بين الصغار فقط. فقد كنا نحاول أن نشاركها بعضا من هذه الحركات وهي في معظمها بهلوانية من نط نحو الأعلى أو التمدد على البطن والتدحرج تارة يمنة وتارة يسرة أو من محاولة ركوب بعضها البعض وغيرها من حركات تنم كلها على أن اللعب فطرة وغريزة لا يمكن بل لا يجب نبذها وقمعها.

كانت للكبار مكانة غريبة في المجتمع القبلي المحلي. وقد تصل بهم الأمور إلى تعنيفك بحجة تربيتك، ويرى أبواك أن في ذلك مصلحتك، فينصرونهم عنك حتى لو كانوا على خطأ أو ظلموك. الكبير في نظرهما حكيم ويتصرف دائما بحسن نية وإن صادف وعنفك فلأنك مخطأ أو اقترفت أمرا يستحق العقاب أو لأنهم بذلك الفعل يرومون تصحيح وتقويم اعوجاج تبدى لهم لوحدهم أو أحيانا لكي يحضوا بمزيد من ثقة أبويك. فكانت المنظومة كلها مبنية على تدخل الغير في “تربيتك” وعقابك وتوجيهك بدون وجه حق. ما يجعل سلوكك مبني دائما على إرضاء الجميع، القريبين والبعيدين منهم على حد سواء. وهذا مظهر لا يخدم بطبيعة الحال السلوك العام ويجعله ينقسم إلى سلوك ظاهري يراه الجميع وسلوك آخر خفي تعيشه وتمارسه من داخلك أو في ساعات الخلوة بالذات وانفرادك بنفسك. وهذا تمرد أيضا، أو إنه بالأحرى شكل من أشكال التمرد على منظومة القيم والأعراف. وكذلك كان حالك إلى وقت قريب، وما تزال آثاره ورواسبه تتجلى في الكثير من السلوكيات والمواقف حيال العديد من القضايا والأمور، بحيث لا تتصرف وفق ما تراه وتعتقده وتؤمن به، بل وفق تلك المنظومة، وحجتك في ذلك مراعاة الوالدين ومكانتهما داخل المجموعة وكذلك مراعاة لمستواهما المعرفي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يساير مستواك العلمي والمعرفي. وللحفاظ أيضا على الحد الأدنى من الوقار والاحترام بينك وبين أفراد القبيلة ولتعطي انطباعا بالتواضع وعدم التكبر.

الناس عندما تتحدث لغة غير اللغة التي ألفوها وتعودوا عليها في التواصل والتفاهم والتبادل سيحكمون عليك بأحكام قاسية تصل إلى حد اتهامك بالعصيان والتكبر والتبجح والتنكر للأصل وما كنت عليه قبل أن تغادر إلى وجهات عديدة تعلمك أن الحياة ليس ما كنت تحياها في بلدتك الصغيرة والضيقة الأفق. الكل فيها كان مراقبا وتحت السيطرة.

المجتمع الصغير والكبير مبني على تراتبيات وأفضليات وأسبقيات. “احترام” الصغير للكبير أيا كان هذا الكبير و”احترام” النساء للرجال مهما كانوا. لكن العلاقة مع النساء تبقى مع ذلك غير واضحة المعالم وتخضع لمنطق آخر غير الذي يحكم الحالتين الأوليتين. علاقة الأطفال بالنساء تتسم دائما بنوع من الغرابة أو البراءة. الجنس اللطيف يستهوي الصغير قبل الكبير فتراه، أي الصغير، يفضل أن يتواجد بين دراعي وأحضان الكائن الأنثوي أكثر من الكائن الذكوري. طبعا هذا يجد له تفسيرا في طبيعة النواعم، ولا نحتاج هنا إلى أن نحيل على كتب علم النفس وما شابهها. الدفء والحنان والعطف والسكينة والحب الذي يحس به ويتلمسه ويعيشه الطفل ولو للحظات قليلة بين أحضان النساء لا يضاهيه شيء آخر.

الرجال عموما معروفون بالخشونة، وليس المقصود أن تعاملهم خشن بالضرورة، لكنه بكل بساطة خال من كل تلك الحركات والعبارات التي قد تقربه من النواعم، لذلك يحاول الرجل عموما تملك مشاعره وهو أمام هذه المخلوقات الصبيانية التي تتصرف بعفوية والتي قد توقعك في فخ عوالمها الخيالية الناعمة الجميلة. عوالم يسودها اللعب والمرح والضحك. الرجل، عكس المرأة أو إن شئت نقيضها، لا يرضى لنفسه أن يحط من قيمته فيتصرف مع الصغار وكأنه صغير. تحضر من جديد تلك التراتبية المشؤومة والتي تساهم فيها وتكرسها النساء أنفسهن.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News