الدار البيضاء.. أحياء شيدتها الحماية للعمال تتحول لشرارة الاستقلال

تحولت حاجة المصانع والمعامل الفرنسية المتزايدة بمدينة الدار البيضاء، مطلع القرن الماضي، إلى يد عاملة لاحقاً إلى شرارة للمطالبة باستقلال المغرب، بعدما توافد على المدينة نازحون من المناطق المجاورة للاشتغال فيها، ما اضطر سلطات الحماية لتشييد أحياء جديدة لهم بالمدينة.
“حينَ استلمت فرنسا إدارة الدار البيضاء كان تفكيرها في البدء منصباً بالأساس على بناء أحياء لفائدة المُعمرين الأوروبيين الذين استقروا بالمدينة؛ بيدَ أن انتشار المعامل والمصانع أنتج حاجة إلى يد عاملة كبيرة غير متوفرة داخل المدينة” يقول كريم الرويسي، نائب رئيس جمعية “كازا ميموار” المعنية بصون تراث مدينة الدار البيضاء.
وهكذا، تم السماح بنزوح العديد من ساكنة المناطق المجاورة للمدينة، فظهرت الحاجة أيضاً إلى بناء أحياء لإسكان هؤلاء، نظراً للاكتظاظ الذي بدأت المدينة القديمة تعاني منه، ولكون الأحياء السابقة مخصصة للأوروبيين، فضلاً عن انتشار إشكال حضري جديد متمثل في الأحياء الصفيحية.
وقد اختار المهندس هنري بروست أن يكون أولها هو حي الأحباس بدءً من سنة 1917؛ “قرر بروست ألا يشيد هذا الحي على الطراز الأوروبي كسابقيه، كونه موجها لإسكان مغاربة، وهكذا فكر في جعل تصميمه يمزج بين الطرازين الأوروبي والمغربي في نفس الوقت”.
وواصل سرد قصة حي الأحباس: “حاول بروست، الذي استقدمه المقيم العام هوبير ليوطي لوضع التصميم الحضري لمدينة الدار البيضاء استنباط مميزات الهندسة المعمارية للمدينة القديمة على مستويات الأزقة والمرافق والسكن وتطبيقها في تشييد حي الأحباس”.
ولفت إلى أن الفرنسيين قبل استعمار المغرب بعثوا برحلات وبعثات استكشافية قادها مستشرقون عكفوا على درسوا كل ما يتعلق بالمجتمع المغربي، بما في ذلك الطابع المعماري للبلاد، غير أن هؤلاء وفروا نظرة مستشرقة وكولونيالية.
وهكذا بُني حي الأحباس، وشيدت فيه المحكمة الكبيرة التي تحولت اليوم إلى مقر جهة الدار البيضاء سطات، كما شيد فيه مسجدان هما المسجد المحمدي والمسجد اليوسفي، علاوة على “قيساريات” على الطراز المغربي ومحلات تجارية؛ فضلا عن مكتبات ودور لنشر وبيع الكتب.
ووفقا للرويسي “تجلت الهندسة العصرية على مستوى الأزقة غير الملتوية بالحبوس كما في المدينة العتيقة، ومن خلال المرور التدريجي من الشارع الكبير نحو الشارع المتوسط نحو الأزقة الصغيرة”.
ومع تزايد أعداد العمال الوافدين على الدار البيضاء، اضطرت سلطات الحماية لبناء “أحياء عمالية” أخرى، بحيث طلبت السلطات من الشركات الصناعية التي تنشط بالمدينة أن تتكفل ببناء أحياء ومرافق لفائدة عمالها، وهكذا تم تشييد أحياء حملت أسماء الشركات المذكورة “حي كوزيمار”، “سوسيكا” وبشار الخير “لافارج”، وذلك في المنطقة الممتدة ما بين الحي المحمدي وعين السبع.
“هذه الأحياء لم تستفد من نفس البعد الإبداعي الذي استفاد منه الحبوس، وتم تجريدها من النقوش والزخرفة والفنون المعمارية، نظراً لعدم توفر الموارد المالية الكبيرة التي رُصدت للحبوس، وبذلك جاءت الدور بسيطة ومكونة في الغالب من غرفة أو غرفتين”.
وخلص الرويسي إلى أن هذه الأحياء تعرف تطورات كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، وهي تعد تراثا معماريا ماديا ولاماديا في نفس الوقت لمدينة الدار البيضاء؛ “فبالإضافة إلى بعدها الهندسي والإنساني؛ كونها موطناً لأناس عايشوا أهم التطورات السياسية التي عرفها المغرب في القرن الماضي”.
وأردف: “بل إن هذه الأحياء هي منبع المقاومة ضد الاستعمار، ولا أدل على ذلك من أن رئيس حكومة التناوب، الراحل عبد الرحمان اليوسفي، كان من أول الذين قاموا بالتأطير السياسي لسكان حي كوزيمار، تحت جلباب محو الأمية، ولذلك فإن هذه الأحياء تستحق مزيداً من الاهتمام حفظاً لذاكرة المدينة”.