ثقافة

أكاديميون يفككون علاقة هيئة الإنصاف والمصالحة بولادة دستور 2011

أكاديميون يفككون علاقة هيئة الإنصاف والمصالحة بولادة دستور 2011

“من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة إلى الدستور”، عنوان ندوة ناقش فيها أكاديميون وباحثون تفاصيل هذه الهيئة التي قادت إلى تعديل الدستور وإنقاذ المغرب من السقوط في المحظور، خلافا للعديد من الدول العربية التي ما تزال تعاني جراء نكبة الربيع العربي التي عمقت أزماتها، مستندين على ما أفرزته الممارسات والمحاولات في التاريخ في الوصول إلى العدالة الانتقالية.

2011.. دستور الحقوق بالأساس

وفي هذا الصدد، قال جواد النوحي، رئيس شعبة القانون العام والعلوم السياسية بكلية العلوم القانونية الاقتصادية والاجتماعية أكدال، الذي تولى مهمة تسيير هذه الندوة برواق المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمعرض الدولي للنشر والكتاب، إن أهمية هذا الموضوع تبدو ذات راهنية رغم مرور عدة سنوات عن الحدثين الأساسيين، هما حدث هيئة الإنصاف والمصالحة كتجربة في التاريخ الحقوقي المغربي وفي التعامل مع ماضي انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب بما سمي بسنوات الرصاص والتي شكلت منعطفا حقوقيا وفكريا، إذ إن سنوات 2005، و2006،و2007، كانت محطات أساسية في النقاش حول تجربة المغرب مع العدالة الانتقالية، وحدث ثان سيتولد عنه دستور 2011.

وفي تفسيره، أشار إلى أن “الحدث الأول تجلى في إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، الذي ارتبط بالأساس بمجال حقوق الإنسان وبمراجعة تدبير هذه السياسة، فيما ارتبط الحدث الثاني بالوثيقة الدستورية بما تعنيه من إعادة توزيع السلطة وإعادة تقوية المشهد المؤسساتي الوطني، وإعادة إنتاج أدوار الفاعلين في صنع السياسات العمومية”.

ويضيف أن “المجال الحقوقي كان في صلب الوثيقة الدستورية بحيث أن دستور 2011 يمكن توصيفه بأنه دستور الحقوق بالأساس، واليوم وبعد مرور ما يزيد عن 10 سنوات على هذين الحدثين، لا بد من مساءلتهما وتقييمهما حول ما أنتجاه من تحول في المجال السياسي والدستوري والحقوقي وكيف يمكن قراءة التجربتين، بعد زمن من الممارسة”.

تغييب لمصطلح الحقيقة واختلاف دستور 2011

كمال الهشومي، أستاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، قال في مداخلته حول الموضوع إن “هيئة الإنصاف والمصالحة هي تجربة فريدة مهمة في العالمين العربي والإسلامي، وهناك أكثر من 30 دولة في العالم اعتمدت ما يسمى بالعدالة الانتقالية عن طريق لجان ومؤسسات، على شكل هيئة الإنصاف والمصالحة من أجل ضمان انتقال ديمقراطي سلس، حيث تسود العدالة الاجتماعية، والتي تم حصر اختصاصها في اختصاصات غير قضائية بمبرر اختلاف التجارب الدولية وعملا بمنطق كونية المبدأ وخصوصية المنهج”.

وأشار إلى أن المغرب كانت له خصوصية في مجموعة من المبادرات، التي قد لا تحمل دائما مفهوما ديمقراطيا، طارحا “مصطلح الجهوية المتقدمة التي لا تشبه أي نظام آخر لا الإيطالي ولا الإسباني ولا الألماني”.

ويرى المتحدث ذاته أنه “لا ينفع منهج النسخ على مستوى المعطيات”، مبرزا أنه “تم تغييب مصطلح الحقيقة من اسم هذه الهيئة، لأن الغرض كان دائما التفكير في كيفية إنصاف ذوي الحقوق والمظلومين الذين عانوا من التضييق بما سميناه بسنوات الرصاص، وتم تعويضها بكلمة “الإنصاف”.

وبخصوص شرعية هذه المبادرة، استحضر الأستاذ المتحدث “رسالة المناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا عشية الاحتجاجات التي عرفتها تونس ومصر، داعيا إياهما إن إقامة العدل الذي يعد أصعب بكثير من هدم الظلم، مطالبا إياهما بالنظر إلى المستقبل والتعامل معهما بواقعية أكثر من الوقوف عند الماضي الأليم، قائلا ليس بالسهل أن يكون المعتدي والمعتدى عليه على طاولة واحدة ويتم النقاش والتسامح فيما بعد، ليس سهلا على أصحاب الحقوق، لكن الأهم هو المستقبل وأنه لا يجب اعتماد ثقافة الانتقام، وإلا قد تولد لنا ثورة مضادة، وبالتالي يمكن أن تضيع الثورة ومعه ذلك التغيير المنشود لصالح المجتمع”.

دستورٌ مغاير شكلا ومضمونا

ووصل الهشومي في حديثه إلى دستور 2011 بعد الربيع العربي، مؤكدا أنه “بكل موضوعية كان دستورا مغايرا على مستوى الشكل والمضمون، هو نتاج لعاملين أساسيين، أي لتحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسة ثم للضغط المرتبط بميزان القوى التي تفرض الاستجابة بتواز مع حجم وإيقاع هذا الضغط الذي يمكن أن يكون ضغطا عاديا أو أن يكون استثنائيا كما جاء مع الربيع العربي”.

وسجل أن الدستور الحالي أضاف إلى الفاعل السياسي التقليدي فاعلا سياسيا جديدا، هو الفاعل المدني من خلال دسترة دور المجتمع المدني، بعدما كان للحركات المدنية دور أساسي في إنجاح هذه الاحتجاجات التي ظلت في حجمها ولم تذهب بعيدا كما الأمثلة السيئة لبلدان أخرى.

ولفت إلى ضرورة الانتباه خلال الحديث عن الدستور إلى السياقات التي صاحبت هذا التعديل لفهم كل التطورات، مبرزا أنه “بالنسبة لدسترة التوصيات يجب الانتباه إلى الكلمة التي جاءت في الخطاب الملكي في التاسع من مارس الذي تضمن ثمان محاور للتعديل وجاء في المحور الثاني منه دسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة الوجيهة، والالتزامات الدولية”، مستشهدا بالتجربة التونسية التي همت صلاحيات البرلمان على حساب رئيس الدولة حتى لا يتكرر ما حصل في النظام السابق، لكنها اصطدمت بواقع التطبيق وعقلية التطبيق، بالفاعلين والمسؤولين على التطبيق، لذلك انشغل عمل الهيئة لدينا بشكل أكبر على جبر الضرر أكثر مما ارتبط بمسار الإصلاح العميق، وفقه.

وطرح المتحدث ذاته مجموعة من الأسئلة في إطار تقييم مستوى أو مضمون الدستور، وحياة هذا الدستور، أي تطبيق فصول هذا الدستور عمليا في الحياة السياسية والمجتميعة والاقتصادية للمواطنين المغاربة، منها “إلى أي حد ساهم هذا الدستور في ترجمة السياق وروح هذا الحراك الإقليمي، من خلال فصوله؟ ولأي هدف جاء هذا النص؟، ثم هل تنعكس كل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة كما جاء في الخطاب الملكي 9 مارس، بمرجعية الفعل في الواقع ولمس التغيير وممارساته، وهل استطاع هذا الدستور أن يساهم في انتقالنا إلى مجتمع ديمقراطي ليبرالي، كما روج له، أم العكس؟ وهل تتمثل مؤسسات النظام السياسي وسلطاته في هذه المفاهيم والمداخيل والاختيارات المعبر عليها بأفق مجتمع ديمقراطي تنموي؟ وإذا كان الجواب بالنفي هل لا زال الإصلاح الدستوري أفقا للمطالب الديمقراطية؟”.

وفي تعليله، قال إن الواقع الملموس يبين أن هناك بطء شديدا في وضع السياسات وإخراج القوانين ومراجعة أساليب العمل على مستوى السلط الثلاث، وأجرأة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.

ولتحديد مفهوم “الديمقراطية”، أكد أنه “لا بد من الاعتماد على التاريخ المعاصر السياسي في المغرب، الذي يبين لنا قدرة هذا النظام على الحفاظ على استمراريته في كل المتغيرات حتى تلك البنيوية، والشروحات النظرية التي دائما ما تؤكد أن للدولة أدوات إما الاستقطاب أو القمع، أو الاستيعاب، أو التهميش”.

وعدّ أن “هناك العديد من الأبحاث والدراسات التي تؤكد أن هناك ديمقراطية مرتبطة بالانتخابات لكن لا تهتم بالحريات وهي التي تعتبر ديمقراطية غير ليبيرالية”.

وفي هذا السياق، أشار إلى أنه “هناك نظاما ثانيا يتعلق بالليبرالية بدون انتخابات والتي تسمى بالسلطوية الليبرالية، والنظام الثالث الذي يعتبر نظاما سلطويا ليبراليا نتيجة لتعاون الجناح الإصلاحي للدولة أو السلطوي مع الجناح المعتدل في المعارضة، أي إن هذه الثنائية بين الديمقراطية والليبرالية تعتبر تعديلا مهما جدا، وهناك اتجاه آخر لا هو سلطوي ولا هو ديمقراطي، بحيث يدوم لفترة طويلة حسب ما يعبر عليه بالنظام الهجين”.

وفي ختام مداخلته، قال المتحدث ذاته إنه “لا يرى أن هناك فصلا للسلط لا على مستوى الواقع، ولا على مستوى الممارسة، إذ يتضح ذلك من خلال السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ومن خلال عدد المقترحات والقوانين في البرلمان مقابل عدد مشاريع القوانين”.

وأضاف أن ذلك “يتضح على مستوى مساءلة الحكومة حول تتبع السياسات العامة، وكذلك على مستوى تشكيل أجهزة البرمان”، مسجلا أنه “من خلال ذلك أعتقد أن النظام السياسي استطاع أن يجدد نفسه على مستوى المؤسسة الملكية من حيث الشكل والصورة، لكن لم يستطع تجديد جميع مكوناته المرتبطة بالسلط في ترسيخ صلاحياتهم في هذا الجانب”.

بروز هيئة الإنصاف والمصالحة أو العدالة الانتقالية

عبد الحي المودن، عضو سابق بهيئة الإنصاف والمصالحة، أكد في مداخلته أن “موضوع هيئة الإنصاف والمصالحة أو العدالة الانتقالية كانت مفاجئة ليس فقط من حيث القضايا التي تطرحها ولكن من حيث المصطلحات التي ارتبطت بها مثل مصطلح الحقيقة، والذي لم يكن يُدرس في أي من الفصول التي كانت تدرس في كليات الحقوق، ثم موضوع الانتهاكات الجسيمة التي بدورها لم تدرس في المقررات، وموضوع الضحايا الذي لم يعالج في إطار هذه المقررات، ثم موضوع العدالة الانتقالية، الذي لم يكن مطروحا”.

وأفاد بأن هذا “المفهوم هو مفهوم جديد، ليس فقط على الجامعة المغربية ولكن على مستوى العالم، إذ لم يظهر إلى في سنة 1990، والذي ابتكر محاولة لإيجاد مخرج لأزمة عرفتها الأنظمة السياسية التي شهدت الانتقال من الأنظمة السلطوية إلى الأنظمة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية والأرجنتين، والتي بعد هذا الانتقال سعت إلى تطبيق العدالة العقابية، لكن هذه التجربة اصطدمت بمقاومة شرسة من طرف المسؤولين على هذه الانتهاكات والذين كانوا لا يزالون يحتلون مناصب المسؤولية في النظام السياسي ما بعد السلطوي، إذ كانت هذه الوضعية تهدد مصير المسار الديمقراطي في أمريكا اللاتينية والأرجنتين، لذلك سعى السياسيون بمساهمة مفكرين في أن يجدوا مخرجا لهذه الوضعية، من خلال إمكانية التأجيل أو التضحية بالعدالة العقابية من أجل تسهيل عملية الانتقال الديمقراطي، عن طريق تأجيل محاكمة المسؤولين”.

وأضاف أن “هذه الوضعية نفسها طرحت بالنسبة للتجربة الرائدة في مجال العدالة الانتقالية بإفريقيا الجنوبية، التي عمل فيها الساسة والمفكرون والمنظرون لمنح الأولوية للعدالة الانتقالية لتجنب الحرب الأهلية، وتسهيل الوصول إلى نظام المساواة، وفي الوقت نفسه تجنب محاسبة المسؤولين”.

البحث عن الحقيقة والاعتراف بانتهاك حقوق الضحايا

وفي المغرب، أكد المودن أن “هذه المفاهيم واجهها المغرب أيضا في فترة نهاية التسعينات عندما بدأ فتح ملف الانتهاكات الجسيمة وكيفية التعامل مع هذا الإرث وإيجاد جواب لكيف يمكن للفاعلين السياسيين التعامل مع هذا الإرث عن طريق مواجهته وفتحه من أجل إيجاد أجوبة للضحايا، وفي الوقت ذاته خلق عدالة انتقالية مختلفة عن العدالة العقابية”.

وأضاف في السياق ذاته أن “هذه العدالة الانتقالية التي كانت من أهم محاورها، البحث عن الحقيقة وطرح الحقيقة في عدد من البلدان، بينها المغرب”.

وواصل حديثه بالقول: “إن فكرة الحقيقية كما كان ينظر إليها من خلال المقررات في كليات الحقوق، تتجلى في النص القانوني، وهذا الأخير هو الذي يخلق مسألة الحقيقة، إلى جانب الحكم الذي يصدر عن طريق القضاء، والذي يضع حدا لهذه الحقيقة، وفي إطار العدالة الانتقالية كان يُركز على شكل آخر من الحقيقة، تلك المرتبطة بالاستماع إلى الضحايا، والذين بحديثهم عن معاناتهم تعترف لهم الدولة والمجتمع بانتهاك حقوقهم، وتعرضهم لقسوة الدولة”.

ويرى انطلاقا من العديد من النقاشات والكتابات والرسائل الجامعية عديدة، التي نشرت حول هذا الموضوع وجهت انتقادات لمفهوم هذه العدالة الانتقالية، من أبرزها تجنب موضوع أساسي يتعلق بالمساءلة، وبالتالي فإن العدالة الانتقالية مكنت في جل الدول التي عرفت هذه التجربة، من إفلات المسؤولين عن هذه الانتهاكات من العقاب.

ويعتبر أن هذه الإشكالات التي طرحت بشكل جديد في ظل العدالة الانتقالية وفي ظل تجربة هيئة المصالحة والإنصاف ملكا للجيل الحالي، مبرزا أهمية “توظيف هذا الإرث من أجل البحث عن وسائل أخرى في البحث عن الحقيقة والعدالة، والوسائل المبتكرة لجبر أضرار الذين انتهكت حقوقهم”.

ويرى أن “النظرة للانتقالية الديمقراطية، كانت نظرة مبالغا فيها وليس انتقالا جارفا لجميع الأنظمة”، عادا أن التوجه نحو الديمقراطية ليس مسارا موحدا تعرفه جميع الدول إذ هناك تراجع عشر سنوات في قلب الديمقراطيات التقليدية التي تعرف مشاكل مرتبطة بالديمقراطية.

ويشير إلى أن “التفكير في هذه القضايا يحتاج إلى تجديد مستمر والبحث عن مشارب ومصادر مختلفة للبحث عن أجوبة وليس تكرارها، وهذا يعني ضرورة الاجتهاد الفكري والنظرة النقدية للتراث الفكري والبحث عن مخارج جديدة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News