رأي

ما بقينا فاهمين والو: أسباب حيرة الآباء مع أبنائهم (2/2)

ما بقينا فاهمين والو: أسباب حيرة الآباء مع أبنائهم (2/2)

لنفحص الآن بعض الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة:

ول تلك الأسباب هو أن الأمهات والآباء اليوم، لا يستسيغون الحرمان ويرفضون فكرة “معاناة ابنائهم بسبب الحرمان”. لذا فهم يلزمون أنفسهم بتوفير كل متطلبات أبنائهم حتى ولو كانت إمكانياتهم لا تسمح بذلك. فالمهم هو رفع شعار: ” ما يمكنش نحرم بنتي/ ولدي…”. لماذا؟ لأنهم يعتقدون أنهم بذلك سينتقمون من ماضيهم البئيس وسيتخلصون من إحساسهم بالنقص والمعاناة. معتقدين أنهم سيعفون بناتهم وأبنائهم من تكرار نفس التجربة أي تجربتهم الطفولية الشقية.

أما السبب الثاني فهو ذو مسحة سوسيوثقافية، فالأمهات والآباء يريدون لأبنائهم ما يريده الجار أو الزميل في العمل أو العم او الخال أو كل من يمثل في أعينهم النجاح الاجتماعي. إنهم يقلدون الآخرين ويغارون منهم ويريدون أن يكونوا مثلهم: لا بد أن يرتاد أبناؤهم نفس المدارس الحرة التي يرتادها الآخرون، ولا بد أن يلبسوا نفس العلامات التجارية، ولا بد أن توصلهم سيارات فخمة إلى باب المدرسة. ومن المفروض عليهم أن يمتلكوا مسكنا لائقا في أحد الأحياء الراقية التي تليق بمقامهم وأن يقضوا العطل في منتجعات سياحية مصنفة أو في الخارج (تركيا، إسبانيا، الإمارات، ولما لا التايلاند أو السيشيل). هكذا يتورط الآباء والأمهات في ما أسميه السيلان الإجتماعي الذي يعمل وفق شعار” افعل كما يفعل الآخرون” أو “اتبع الموجة”. وهم يقولون مع أنفسهم: لما لا يكون ابني مثلهم أو أحسن منهم. وهذا التورط هو الذي يفتح الباب على مصراعيه لكل المتاعب اللاحقة.

أما السبب الثالث فهو اقتصادي محض: فالإغتناء السريع والثراء الفاحش دفع الأمهات والآباء إلى المبالغة في مصاريفهم ومصاريف أبنائهم، معتبرين ذلك من علامات الثروة الدالة على نجاحهم وارتقائهم الإجتماعي. كما أن توسع قاعدة الطبقة الوسطى التي ستفرز فئة من المتسلقين والانتهازيين الذي يراكمون الثروة بطرق ملتوية، جعلت العديد منهم يسارعون إلى التباهي بذلك وإبرازه كعنوان للجاه والغنى. وهذا ما يدفعهم إلى إيلاء أهمية قصوى للمظاهر والشكليات مثل السيارات الفارهة والمنازل الفخمة والهواتف الذكية آخر صيحة وباقي الاكسسوارات الأخرى، مع ما يصاحب ذلك من صرف الأموال على أبنائهم بمناسبة أو بدونها. أبناء وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها أمام كل مظاهر الاستهلاك، فصاروا يتفاخرون بالعلامات التجارية التي تؤثث معيشهم اليومي. إنهم مثل أمهاتهم وآبائهم يستعرضون ممتلكاتهم كدليل على نجاحهم الوهمي. لأن ما يهم – في المجتمع الاستهلاكي- هو إبراز المظاهر وعرض الممتلكات: ما لدينا هو الذي يحدد قيمتنا ومكانتنا. هكذا تختزل كينونة الأفراد في ما هو مادي وكمي و”عاطي للعين”. إن أغلب الناس تربي أبنائها على تقديس المال وتبخيس القيم والمبادئ والاعتناء بالمظاهر. الا نعيش في “مجتمع استعراضي” Societé de spectacle: فالثروة أهم من الأخلاق والفرد أهم من الجماعة والأنانية أهم من الإيثار والمصلحة الخاصة أهم من المصلحة العامة. إذ يقاس الفرد بما يملك وليس بما يعرف، بمظهره وليس بباطنه، بما يدعي وليس بما هو عليه حقيقة.

والسبب الرابع ذو بعد نفسي: إن أغلب الأمهات والآباء يتنكرون لماضيهم ولا يريدون الاعتراف بفقرهم ومعاناتهم وبؤسهم، متفادين بذلك فرصة التصالح مع أنفسهم وإمكانية مكاشفة الذات. الأمر الذي يولد لديهم عصابا مزمنا Névrose chronique يتمظهر في الصراع بين حقيقة ما كانوا عليه ووهم ما هم عليه وما يأملون أن يكونوا، وهو صراع يغذي لديهم “سكيزوفرينا سعيدة”Happy Schizophrena تجعلهم يجمعون بين الشيء ونقيضه في سلة واحدة ويستسيغون وضعيات متنافرة، بل إنهم لا يتوانون عن تبرير ما لا يمكن تبريره أمام الملأ وبدون أدنى حرج. هذا العصاب يفضي بهم إلى توترات نفسية واضطرابات سلوكية، غالبا ما تنتهي بهم إلى اكتئاب حاد أو قلق مزمن أو انفصام للشخصية. إن التنكر للماضي والكذب على النفس وغياب المكاشفة لا يعدو أن يكون إلا هروبا إلى الأمام، نتفادى من خلاله الوقوف أمام المرآة والإنصات إلى دواخلنا والتخلص من الأقنعة التي تحجب عنا الحقيقة. هروب يسقط صاحبه في دوامة من الهلوسات والأوهام التي تؤثر سلبا على الأبناء وتحرف سيرورة التنشئة الاجتماعية نحو مسارات خاطئة، سيؤدي ثمنها الآباء والأمهات مستقبلا أي بعد فوات الأوان.

فالأبناء يتقمصون شخصيات أمهاتهم وآبائهم في طفولتهم، يقلدون ما يرون وما يسمعون ويثقون في الكبار ثقة عمياء. والنتيجة هي أنهم سيعيدون إنتاج ما سلف وسيعملون على إدامته باعتباره النموذج السائد والصائب. فالصحيح عند الطفل هو ما يقوله وما يفعله أبوه أو أمه أو من يدرسه. لكن الأمر سينقلب رأسا على عقب في زمن المراهقة، حيث عادة ما يثور المراهقون على كل السلط: التقاليد، المؤسسات، التراتبية الأسرية…إلخ. إن أول ما سيتنكر له المراهق في تمرده ذاك هو سلطة الأب والأم لأنه بذلك يرفض الماضي ويسعى جاهدا للتخلص مما يزعجه ويصد طموحه المتمرد. إنه لن يقبل انفصام شخصياتهم ولا “السكيزوفرينا السعيدة” التي تؤثث معيشهم. هي إذن بداية التوتر والمواجهة بين الأجيال. مواجهة- لا شك- ستكشف عن الضمائر المستترة التي تقف وراء التصدعات النفسية والعلائقية القائمة.

أما السبب الخامس فيمكن اختزاله في عبارة “الجرح النرجسي” للأمهات والآباء. إذ أن هؤلاء يتجاهلون الواقع أو يتهربون منه ويفضلون الإحتماء بتمثلاتهم ، لذا تراهم ينظرون إلى أبنائهم من زاوية نرجسيتهم الضيقة ويسقطون تصوراتهم الذاتية عليهم. إنهم باختصار لا يريدونهم كما هم ولكن كما يتمنون أن يكونوا، دون أدنى مراعاة لرغباتهم أو ميولهم أو أحلامهم. فجرحهم النرجسي يجعلهم يفرضون اختياراتهم ووطموحاتهم وإحباطاتهم عليهم، وهكذا نلاحظ أن أغلب الأمهات والآباء هم الذين يختارون الشعب والمسالك التي سيتابع فيها أبناءهم الدراسة، بل إنهم يرسمون لهم حتى مسارهم المهني: هم وحدهم يقررون هل سيكون الولد أو البنت طبيبا أو رجل أعمال أو مهندسا …إلخ. ويحشرونهم في تلك المسارات والاختيارات دون مراعاة لميولهم ورغباتهم واختياراتهم. والأدهى من ذلك أن بعض الآباء يفرضون على ابنائهم أذواقهم الشخصية دون خجل: الفريق الكروي الذي يفضله أو الشكل الغنائي الذي يميل إليه. ماذا يعني هذا؟

إنه يعني ببساطة أن الجرح النرجسي هو عقدة نفسية يعاني منها الكبار ويسقطون تبعاتها على أبنائهم لتصريف قلقهم ومعاناتهم الباطنية التي لم يبذلوا أي مجهود لفهمها وتحويلها في الاتجاه السليم. تلك النرجسية الضاغطة هي التي ستصطدم بنرجسية المراهق وأنانيته المفرطة التي يسعى من خلالها إلى تأكيد ذاته وفرض شخصيته. وحين تصطدم النرجسيتان يبدأ التوتر والصراع بين الجيلين وتسوء العلاقة بين الوالدين والأبناء. إن التعنت الذي يتعامل به الوالدان يفصح عن مشكلة غاية في التعقيد وتحتاج إلى كثير تفكير لفك طلاسمها. تتلخص هذه المشكلة في كون الكبار لا ينظرون إلى الواقع كما هو بل كما يرغبون أن يكون، إنهم بصيغة أخرى يرون ما يريدون أن يروا هم، وليس ما هو موجود في الواقع. فتجدهم يحتكمون لنزواتهم وميولاتهم وإحباطاهم رافضين التعامل مع الواقع كما هو وبالتالي التفاعل مع أبنائهم والإنصات لانتظاراتهم وتفهم رغباتهم واختياراتهم.

خلاصة القول إنهم ينصتون لأنفسهم ولا ينصتون لأي شيء آخر. وهذا التعنت النرجسي ينتقل إلى الأبناء بسهولة، مما يجعل مواقفهم وسلوكاتهم لا تتماشى مع الواقع بقدر ما تساير نزواتهم الشخصية وأنانيتهم المفرطة.

أما السبب السادس فهو نفسي اجتماعي، وهو السبب الذي يمكن اختزاله في ثنائية اللذة والألم: ذلك أن الطفل والمراهق تستهويهما المتعة وينجذبان إلى كل ما يحقق إشباع اللذة، مثل الألعاب. وبالمقابل ينفرون من كل ما قد يسبب لهم الألم ويجرهم إلى المعاناة. لذا فخيارهم واضح: المتعة أولا وأخيرا وليذهب الآباء إلى الجحيم. وهو الخيار الذي يفسر إقبالهم على عالم اللعب وابتعادهم عن عالم الجد والمصلحة العامة والتفكير في المستقبل. فهم منشغلون بالاستمتاع بالحاضر والأهم هي اللحظة الراهنة ومن هنا شعارهم الخالد” عش اللحظة”. إنهم أطفال لم يدركوا أبدا المسافة بين الرغبة وإشباعها، ولم يعلمهم أحد أن تلك المسافة ضرورية وحيوية بالنسبة لنموهم النفسي. أطفال لا يعرفون الحرمان ولا التأجيل ولا حتى الانتظار، ولن يستوعبوا يوما أن تحقيق الرغبة يستدعي التضحية والصبر وبعض المعاناة. وهي مسافة لا بد منها ليستقيم معنى الرغبة، وإلا تحولت الرغبات الانسانية إلى مجرد نزوات حيوانية.

إن الطفل أو المراهق يتعامل بمنطق اللذة السريعة والإشباع اللحظي، وهذا ما يتحقق له عبر الألعاب الإلكترونية التي تبعده عن العالم الواقعي حيث الحرمان والصد والمعاناة، لتنقله إلى عالم افتراضي مؤثث بالمتعة والفوز والفرح. إنه يخلق عالما وهميا كبديل للعالم الواقعي ويصير الأول هو العالم الحقيقي والمرجع اليقيني، وفق معادلة مقلوبة يصير فيها الوهم هو الحقيقة، والحقيقة هي الوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News