رأي

الغش المشروع

الغش المشروع

عاشت أجيال الثمانينيات والتسعينيات، الغش في الامتحانات المدرسية كوصمة عار وعيب، وفعل شنيع يقلل من شأن التلميذ أو الطالب، وقد يمس حتى بكرامة والديه، وهو الطبيعي استنادا للمنظومة الأخلاقية الكونية على اختلاف مرجعياتها، استمر هذا الوضع قائما إلى بداية الألفية، أي اعتبار الغش غير مقبول، بل عندما يحضر ولي أمر أحد التلاميذ إلى المؤسسة التي يتابع فيها ابنه الدراسة، ويخبرونه أن ابنه ضبط في حالة غش، لا يتراجع في الاتفاق والتفاعل على أساس أنها تجاوز أخلاقي.

انتقلنا في السنوات الأخيرة من هذا الوضع إلى وضع جديد، سمته الأساسية مشاهد تبرير الغش بل المطالبة به في صيغة ”الحق”، مشهد إلى وقت قريب كان لا يمكن تخيله إلا في سلسلة ساخرة، أي احتجاج أولياء الأمور على عدم السماح لأبنائهم بالغش، واستعمال كل السبل غير القانونية وغير التربوية للحصول على تقييمات لا يستحقونها، بل وصل الأمر ببعضهم لتصنيف الأستاذ المشرف على الامتحان، الذي لا يسمح بذلك بالمجرم أو المريض النفسي.

دعونا نعود لكيفية تشكل هذه الصورة الجديدة في مشهدنا التربوي؟!

إن انتقال وضعية ما من حالات معزولة إلى ظاهرة له شروط حسب أهل علم الاجتماع، انتقال الغش في الامتحانات من حالة العار والعيب، والتجاوز الأخلاقي إلى وضعية عادية بل في أحيان أخرى للتفاخر يعود لتوفر شروط، لعل أولها التحول القيمي الذي عرفه المجتمع المغربي في السنوات الماضية، الانتقال من الربح للجشع دون أي وخز ضمير، التحول من الربح مقابل مجهود صغير أو دونه إلى الإفشال مقابل مجهود خرافي، نتاج تعليم النتائج، وشروط الولوج بالنتائج، نتاج تمجيد الاسترزاق اللا أخلاقي واحتقار المهن النبيلة، نتاج انتشار شراء الدمم وتجارة الانتخابات عوض انتخابات البرامج، وبالتالي لم ينتقل الغش في الامتحانات من حقل اللا أخلاقي إلى الحالة ”الحق غير المشروع” صدفة.

إن تعميم معيار النجاح بالتسلق عوض النجاح بالاستحقاق والتدرج هو ما جعل هؤلاء يطالبون علنا السماح لأبنائهم بالغش دون أي حرج، فمن سيتسبب في إحراجهم غارق في الغش بكل أشكاله، وبالتالي يصعب إيقاف الظاهرة بالطرق السليمة ولا يجد المسؤولون سبلا للحد مرحليا من الغش إلا الطرق الأمنية والردعية، لأن مقارعة الحجة بالحجة، قد يجعل معسكر الغش ينتصر، فحججه بينة وقد نلخصها في المثل الشعبي القائل ”كون كان الخوخ يداوي يداوي راسو” أو ذلك الذي يقول ”الجمل مكيشوفش حدبتوا كايشوف غير حدبة خوه”.

إن الأسباب المجتمعية والسياسية بمعنى من المعاني، الكامنة وراء الغش، تنضاف إلى التهويل الإعلامي للشواهد المدرسية أولا، واعتبارها فيصل في النجاح من عدمه، وثانيا في استغلال هذه المشاهد كمادة دسمة تجلب المشاهد المتلصص، في حين أن اختبار مدرسي مهما كانت درجته ليس محددا للنجاح أو الفشل في المجتمعات الديمقراطية.

أمام كل هذه المعطيات يبقى الصمود في صف العقل الأخلاقي صعب جدا لحد يمكن معه تشبيه الأمر بمسألة إيمانية، لنطرح السؤال ما دام هو أكثر الطرق الممكنة للفهم، ولنطرح السؤال الإشكال في قالب وضعية اجتماعية، إلى أي مدى قد يقتنع مراهق اليوم يتابع دراسته بمدرسة عمومية أن حصول زميله في نفس المستوى بمدرسة خاصة على تقييم أفضل بجدوى عدم الغش أو لا أخلاقية الغش في الامتحانات؟

طبعا ويعلم مسبقا أن الفيصل بينه وبين زميله هي تلك الأرقام في الولوج للمؤسسات والمعاهد العليا، وقد تكون تلك الأرقام سببا في تموقعه الاجتماعي مستقبلا، إن الأمر شبيه باقتناع شخص يعاني فوبيا الكلاب بالسباحة في نهر به التماسيح.

إن محاربة الغش في الامتحانات لا تحتاج المزيد من العقوبات على من تم ضبطهم، ولا تحتاج المزيد من رجال ونساء التعليم للمراقبة، ولا حتى لعدد من رجال الأمن في أبواب مراكز الامتحان، ولا لتشديد العقوبات وأجهزة الضبط، نحن بحاجة لنقاش أخلاقي جاد ومسؤول، نحتاج للتربية على الأخلاق، وإعلام أساسه وهاجسه الأبعاد الأخلاقية دون السقوط في الأخلاقوية، نحتاج كذلك أن ننتبه لتصنيفاتنا وتقسيمنا للناجحين والفاشلين، وطبعا إعادة النظر في منهجيات اشتغالنا ونحن نختار بين أبنائنا في ولوج المعاهد، دون أن ننسى الوقوف كثيرا عند تكافئ الفرص والسعي للعدالة التعليمية ككل.

-باحث في العلوم السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News