وجهة نظر

العمى والعبقرية الأدبية

العمى والعبقرية الأدبية

كلما لاح لي الحديث عن معنى العمى الحقيقي، إلاّ وعنّ في ذهني ما يستشيط في رؤوس الأشهاد من تأسٍّ مصاحب لاختيار الكلمة، وكأن العاهة سبّة في نفسها وجريرة في حق قائلها. أستمهل حضورهم مستدعية أحد أجمل وأشهر القصص التي رويت عن “بلد العميان”  للكاتب هربرت جورج ويلز، والتي لا يختلف اثنان عن كونها توليدا لفهم مغاير لمعنى العمى؛ ليس عمى العينين المنطفئتين أكثر ما هو عمى جهل وإلحاف في الجهل.

تطالعنا صورة الأعمى شخصا غارقا في الظلام، عالمه مؤثث من سواد، بيد أن شهادات الأكفّاء تنفي هكذا تصور؛ فالعديد منهم يؤكدون أن الأسود خارج لائحة الألوان المتواترة لديهم، بل إنهم يملكون خلفية متعددة منها ابتداء بالأخضر والأزرق والأصفر إلى الفيروزي اللامع، إنهم يطوفون في عالم مربك من الألوان يجعل منهم أسياد مملكتهم، قادرين على خلق ما يميزها ويفردها عن نظر البصراء.

لقد صادفتني الكتابات التي دعكت عجينتها أيادي عميان، لم تجردهم العاهة من عبقرية الكتابة بل جعلتهم أدرى الناس بمستلزماتها ومطباتها؛ وقفت على ثلاثة منهم راعتني قدرتهم على تحويل العمى محرابا تتطهر فيه دواتهم لتفيض غدقا.

أولهم، أبو العلاء المعري؛ الشاعر المرابط في سجونه الأربعة: العمى والبيت والجسد واللزوميات. يقال إن ألم فقدان ذويه تحجر في أحداق عينيه فأطفأهما، هكذا اكتفى الشاعر المغاضب من الدنيا ونكساتها بالبقاء حبيس بيته ولزومياته، أما جسده فقد ضرب حوله جدارا صفيقا بعيدا عن اللذات والغوايات.

فحسبه لا يجدر بالمرء أن يتزوج لأن المرأة والنسل شران مستطيران، وأيا يكن صوابه من خطئه، وما استبد به من قلق وحزن واحباط، لا مشاحة من استذكار عمله الأشهر من النار على العلم “رسالة الغفران” ؛ وهي في جوهرها رد على رسالة ابن القارح من خلال جعله بطلا لرحلة خيالية وعجائبية يحاور فيها شخصيات أدبية ولغوية في العالم الآخر.

ثانيهم، خورخي لويس بورخيس الكاتب والشاعر الأرجنتيني؛ قصته مع فقدان البصر مختلفة، إذ إنه لم يفقده تماما إلا ببلوغه الخامسة والعشرين من عمره، والمرجح أن ذلك وراثي لأن جدته ووالده بليا بنفس العاهة وتوفيا بها.

ما يميز بورخيس كونه قبل أن يكون أديبا أريبا فهو قارئ نهم. يحكي الكاتب ألبرتو مانغويل أنه صادف بورخيس في إحدى المكتبات حين كان عاملا بها ليجده يطلب من أصحابها مرافقة أحدهم له من أجل أن يقرأ له بصوت عال، فهوس القراءة الذي ارتبط به لم يقيده قط، بل زرع في عزما لا يلين في مجالسة الكتب، وقد عبر عن جذله الكبير بعد تعيينه مديرا للمكتبة الوطنية ببيونس أيريس  سنة 1955،  وذلك لتحقق مراده في أن يكون عالمه مكتبة.

يعد كتابه “الألف” إحدى تجليات عبقريته، حيث أبان من خلاله على اطلاعه بشتى الثقافات والآداب منها العربية، وذلك بتضمينه قصة ” بحث ابن رشد”.

ثالثهم، طه حسين؛ عميد الأدب العربي، ولنا في ثلاثيته السيرية تقفي شامل لخطاه ابتداء من طالب بجامع الأزهر إلى دراس للتاريخ في السوربون بباريس، لم ينكر طه حسين في “أيامه” أنه تألم لفقدانه نعمة البصر، وأنه تحرج من طلب العون من أخيه أو رفقائه حينما كان طالبا يتلمس خطاه الأولى في رحاب الأزهر، كما أنه خفف طعامه مخافة اسقاط الصحون وقرقعة الأكواب والملاعق، أما خوفه الأكبر فقد كان أن ترفضه من أحبها وكانت بصره في الحياة؛ زوجته سوزان.

عاد طه حسين من فرنسا وخاض تجربة التحديث والعقلانية من خلال كتاباته الداعية إلى ذلك، ولعل أهمها كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” كما خلف مجموعة لا تعد ولا تحصى من الأعمال الأدبية والنقدية.

وأختم بمقولة للشاعر الإنجليزي ويليام غولدنغ الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1983  ” في اللحظة التي تتحقق فيها البصيرة، ليست العين هي التي  تبصر”.

–  باحثة في سلك الدكتوراه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News