رأي

ما الذي ينقصنا كأمة يا بني أمي؟

العزوزي

قلما كانت الدموع كاذبة في ذاكرة أمم داستها غطرسة الجور والطغيان.. وقلما كان العدل سيد الموقف لما يشتكي المظلوم من عتو الحاكم المستبد.. تلك هي الإشكالية/ اللغز في مسرح سياسة يلزمها إصلاح نابع من قناعات إنسانية مبنية على العدل والمساواة، وداعية إلى إعادة تأسيس مؤسساتنا على دعائم لا تقل أهمية عن مؤسسات الدول”المتقدمة”.. أكيد أن المؤسسات الديمقراطية تتطلب أساسا مجتمعا مدنيا واعيا بحقوقه وآليات دستورية ينضبط لها المجتمع المدني كما ينضبط لها الجهاز الحكومي على اعتباره الميثاق الذي لا يقبل الجدل والمساومة.. لا يمكن للعالم العربي أن ينشد واقعا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا و…يماثل الواقع الغربي وهو لا زال يسيجه قانون العشيرة والقبيلة، ويطوقه ناموس العرف في حضرة زمن القانون والمنطق.. أكيد أننا في حاجة ماسة إلى التغلغل والتجدر في المدرسة الحقوقية والقانونية، والانصهار في فلك التطور السريع والهادف بشكل يجعلنا نقلص مسافة التأخر حتى لا ينسانا التاريخ، وبشكل يجعلنا لا نخضع كلية للانسلاخ عن هويتنا العربية والإسلامية التي لا يمكن أن نجزم على أنها المسئولة على تقوقعنا وتخلفنا.

إن إعادة قراءة مشروع هيكلة مؤسساتنا السياسية العربية على غرار آليات جديدة تستجيب لثنائية العرض والطلب، كما تستجيب لمعطيات مجتمع مدني عربي له خصوصياته وله أيضا طموحاته في ظل عولمة لا تقبل البتة المراهنات الاعتباطية والاحتمالات المبنية على النوايا الحسنة.. إنها حتمية تاريخية تحتم علينا الانخراط في المسار التكنولوجي، كما تحتم علينا أيضا الاستجابة الشرطية كمسار العولمة الذي يعتبر اختيارا إنسانيا كونيا لا مندوحة عنه.. والانخراط في هذه التجربة التي قد تبدو مخاطرة ورهانا لا يمكن التكهن بنتائجه على مجتمع لم يتحرر بعد من عقلية ماضوية متجذرة لا محالة من قبيل: “أخف الضررين”.

إننا مدعوون إلى تصالح جذري مع حضارة لم تعد تقبل سفاسف الحسابات الضيقة والمراهنات المبنية على أطروحة التوقعات الزئبقية. ألم يكن العالم العربي ضحية هذا المسلسل الذي أبان عن فشله ولا  جدواه غير ما مرة؟ ألم يتجرع سلبيات سياسات أعلنت عبر مسارها الطويل إفلاسها القطعي؟

إن اللحظة التاريخية الحقيقية هي التي لا تقبل إلا المعادلات الرياضية البسيطة الهادفة، غير آبهة بالعادلات الرياضية المركبة المبنية على الاحتمالات والتوقعات.. وهذا لا يعني أننا نروم قانون المسح من فلك الآليات السياسية المختلفة.. فقط ندعو العالم العربي إلى أن يعيد قراءة سيرة فشله المتواتر، ويرتب أوراقه حسب ما يمليه عليه قانون “العولمة” الذي أربك العالم وبعثر الأوراق، ودق ناقوس الخطر معلنا قدوم كاسحة الألغام.. هل يكفي مغازلة المفاهيم، وحمل الشعارات الحداثية، والتزلف إلى الغرب الذي بات يصفعنا ويروضنا كيف يشاء وأنى يشاء..؟ وهل يكفي البحث عن شراكات وهمية غير متكافئة ما دمنا نفتقد إلى معطيات أساسية تؤهلنا إلى الدخول إلى عالم التوازنات..؟

لنكن معشر العرب صرحاء ولو مرة واحدة مع أنفسنا ونقول بشجاعة ماذا لدينا سوى الكلمات والمشاعر الحارة المحترقة والشانقة للأعصاب؛ مشاعر فاترة مثل وجوهنا التي علاها صدأ السنين العجاف! ألم نعلن غير ما مرة تخلينا عن كل شئ! وانبطحنا نرقع مسودات توصياتنا التي أمطرتنا بها مؤتمراتنا التي طالما أعلنت جهرا موتها في غير مولدها لأنها لم تكن أبدا صادرة من أعماق قراء شعوبها المحنطة بثاني أوكسيد الكربون.. شعوب أعلنت سخطها وترديها على حكام تروضهم سياسة أمريكية لبست قناع الصهيونية، وأربكت موازين أمة قيل عنها: خير أمة أخرجت للناس!

زمن رديء مزق صورة الإنسان العربي، وابتلع حاضرة جنونهم إلى الأبد.. ما جدوى إذن المسكنات والضمادات التي تنفثها آهات الشارع العربي وقد استوى لديه الجور والفجور، واستسلم مكرها لقابض الأرواح؟ نحن شعوب مختبئة في ماضيها وفي محرقة ذكرياتها التي لم تعد تخيف بعوضة.. نحن دمعة حرى هطلت من عيني زرقاء اليمامة التي ركلتها الأيام المدونة في دفاتر الهزائم المعلقة على جدارية تاريخنا المتلاشي كالدخان.. يا أمة تعيش على إيقاعات الغزو في حضرة الصمت الذي يشبهنا تماما! ويا لعنة أفاضت الكأس، وطرزت الأعصاب، وشاخت على خرائط الهذيان وصهيل الخيول التي أعياها الانتظار الطويل فسارت مكرهة في جنازة القمر العربي الأحمر!

وطن، أمة، وحكومات لم تعد تفهم تفاصيل وتداعيات شوارعها، كلها تاهت في العبث المسترسل، تغني ليلاها التي أعياها اللف والدوران، وأصبحت بقدرة قادر تجتر حرقة السؤال، والشهيد هنا وهناك يسقط أماما ووراء مبللا برذاذ عشق أزلي، ومطاردا في فضاءات الروح وشرنقة الوقت الشاحب.. فمن ذا الذي يمنحنا نعوشا لنوارى إلى مثوانا الأخير بعيدا عن سيمفونية “انصر أخاك ظلما ومظلوما؟”.

تعليقات الزوار ( 8 )

  1. قليلا ما نتمتع بقراءة مقال يحمل في طياته تفاصيل تجعلنا نشعر حقا بمتعة النص، لست أدري لماذا مثل هذا المنبر الواعد لا يطلب من أمثال هؤلاء الباحثين أن تمنح لهم مساحة الكتابة على الأقل كل اسبوع بطبيعة الحال اذا كان الباحث مستعدا لامتاع القارئ كل اسبوع..
    تحية لكم دكتورنا ودامت لكم المواقف الجريئة

  2. مثال يستحق أن تحوله أيها الباحث الكبير إلى كتب يمكن أن يكون كما عهدناك تنويريا، على غرار ما فعلت مع رئيس جامعة ابن رشد بلاهاي رئيس جامعة ابن رشد… نتمتع حقا بطلعاتك النادرة

  3. باحث تبعت كتاباته منذ زمان كما استقبلته في توزر مع أسرة أبي القسم الشابي، وحاضر في توزر بالعربية والفرنسية في موضوع: كونية الشاعر وشاعر الكونية، أبي القاسم الشابي نموذجا…حقا يعتبر علما استثنائيا أعتز به مغربيا ومغاربيا

  4. الإسلام من اسبانيا القول لكم أن الدكتور عبد السلام مدرستي الترجمة في جامعة طوليدو إسبانية فرنسية بتعاقد مع هذه الجامعة إلى درجة أصبح له في نفس الجامعة أساتذة درهم منذ 1985تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وحين قرأت مقالته هذه تذكرت محاضرة الدكتور رودولفو هيا أمية رحمه الله وهو يحاضر مع الدكتور عبد السلام فزازي..
    شكرا لهذا المنبر واوصيكم بهذا الباحث خيرا فإنه مدرسة

  5. اتتبع كتابات هذا الباحث المتميز منذ زمان علما ان تخصصي قانون عام، ولهذا اعتبره فلتة علمية موسوعية يكتب بلغات ثلاثة اذا لم اختي الذاكرة، عفوا صدر له ديوان بالكيفية ومترجم إلى الكردية..اما حين يكتب في السياسة علما أنه ينهل من اليسارية وهو توجه جامعي عند هذا الباحث..أجل اقرأ له واتمتع وأدعو القارئ أن يحضر محاضراته التي يلقيها بعيدا عن الورد لأنه يمتاز بالبيعة والارتجال.. كما تدعو هذا المنبر أن يخصص له عمودا وهو طلب من متابعتكم الوفي..دامت لكم المسرات

  6. روعة ان تقرا لباحث متمرس ويكتب بلغات عدة وفي تخصصات عدة كما اعتدناه، ولعل هذا المقال يحيلنا الى زمن تدريسنا في ماسر الهجرة والتنمية المستدامة ومواقفه واضحة وطني وابن مقاوم لا يقول الا الحقيقة..دمت لنا

  7. متعة أن اقرأ لك استاذنا الكبير، لقد سعدت بتناول هذا الموضوع وتذكرت من خلاله كتابكم المنشور في لبنان تحت عنوان:
    الزمن العربي الردئ

  8. إطلالة من باحث استثنائي معروف وطنيا وعربيا ودوليا، اعتقد انه ناشر أكثر من عشرين كتابا وفي تخصصات عدة..وحين قرأت المقال تذكرت قامته الكبيرة في مدرج لازلت أتذكره بفخر اتمنى لهذا المنبر أن تتحفنا بعلمه كل مرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News