مجتمع

الرُحّل.. إرث ثقافي مغربي ينبغي الحفاظ عليه أم تهديد يُلاحق استقرار الساكنة؟

الرُحّل.. إرث ثقافي مغربي ينبغي الحفاظ عليه أم تهديد يُلاحق استقرار الساكنة؟

يقف الزمن عاجزا عن تغيير فكرة الترحال التي غُرست بداخلهم، ولا تنجح فكرة الاستقرار في إغرائهم، صامدون في وجه الحرِّ والبرد، وباحثون مُصرون عن الحياة بين الجبال والسهول والهضاب، رغم الظروف الصعبة التي يحكمون على أنفسهم وأبنائهم بتجرعها، في غياب الرعاية الصحية والتمدرس وباقي الحقوق الطبيعية.

هكذا يعيش آلاف الرُحّل بالمغرب، في رحلة بحث دائم عن الكلأ وموارد المياه لماشيتهم، التي تعد نشاطهم الرئيس، غير أن هذا الوضع لا يعنيهم وحدهم، لا سيما بعد أن تحولوا إلى مصدر إزعاج لساكنة العديد من البلدات.

يتنقلون بأعداد هائلة من المواشي، وينزلون أين شاؤوا، حاملين معهم ثقافتهم وموروثهم، لا يحد من نشاطهم إلا تدخل السلطات بين الفينة والأخرى لتقنينه، أو في السيناريو غير المرغوب، اصطدامهم مع القبائل المستقرة، التي ترفض استغلالهم لأراضيها ومحصولها.

هذا السيناريو الأخير نتج عنه في حالات كثيرة، خلال السنوات الأخيرة، مواجهات دامية، خلفت إصابات في صفوف الطرفين، الأمر الذي بات يسائل الحلول المستعجلة لحماية الساكنة من جهة، وتوفير شروط الحياة الكريمة لهذه الفئة من المواطنين المغاربة، بدل النظرة الفولكلورية التي تزج بهم في خانة التراث الثقافي وتقصيهم، بشكل أو بآخر، من حقوق المواطنة.

الساكنة المحلية وهيئات المجتمع المدني بالعديد من الأقاليم سبق أن وجهت شكايات للسلطات الإقليمية، بعدما تم الهجوم على ممتلكاتها وإفساد محاصيلها الزراعية من طرف قطعان الإبل والمواشي التي يملكها الرعاة الرحل، ما جعل وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت يؤكد أن السلطات الإقليمية تعقد اجتماعات دورية، ويتم تكليف لجان محلية مهمتها التدخل بشكل يومي في مناطق وجود الرعاة الرحل بغرض فرض احترام القانون وحماية الممتلكات الخاصة للساكنة والحيلولة دون حدوث مناوشات بين الطرفين، وكذا ضبط النظام حال وجود ما يستوجب ذلك.

المندوبية السامية للتخطيط حددت عدد الرُحّل في آخر إحصاء أجري في 2014 بحوالي 25 ألف شخص، أي ما يمثل حوالي 7 من أصل عشرة آلاف نسمة، وتتمركز نسبة 95% منهم في شرق وجنوب المملكة، وخصوصا بجهات درعة تافيلالت وسوس ماسة وكلميم واد نون والعيون الساقية الحمراء.

الرُحّل.. عمق تاريخي وتحولات

ظاهرة الرُحّل بالمغرب، وفق رشيد الفحفوحي، الباحث في علم الاجتماع، في تصريحه ل”مدار21″، ظاهرة ضاربة في التاريخ المغربي، فهؤلاء “ليسوا طارئين على المجتمع المغربي”، فقد ساهموا في تشييد دول مغربية عبر التاريخ، أبرزها الدولة المرابطية، كما كان لهم حضور فاعل في مواجهة الاستعمار خلال القرن الماضي، ذلك أنهم دافعوا عن الأرض بوصفها ملكا جماعيا، على حد تعبيره.

ويضيف الفحفوحي أن “ظاهرة الرحل بالمغرب بشكلها التقليدي لم تعد قائمة في المجتمع المغربي، أو لنقل إنها بدأت تندثر لمجموعة من العوامل، أولها أن ظاهرة الترحال عبر قبائل وأسر رفقة الأبناء والنساء تقلصت بشكل كبير، وحل محلها ظاهرة الرُحّل الرعاة، وهم أشخاص يمتهنون الرعي لصالحهم أو لصالح مُلاك رؤوس الأغنام والمواشي”.

وجزء من هذا التحول، الذي هم ظاهرة الرحّل، وفق الباحث بجامعة فاس، نتج بالأساس عن ميل هذه الأسر المرتحلة إلى الاستقرار أكثر فأكثر، لا سيما مع انفتاحها على التعليم، وولوج أبنائها للمدرسة، عبر المدارس المتنقلة، التي سهرت السلطات على إنشائها.

رُحّل قدامى وجُدد

ويؤكد الباحث أن “هذا التحول ساهم في تغيير نظرة القبائل المُستقرة المُستقبلة لهؤلاء الرُحّل، بعد أن وجدوا أنفسهم أمام مُمتهني رعي يستبيحون ممتلكاتهم، وليس أمام أسر الرحّل التقليدية، مما قلّص من هامش التوافق والانسجام بين الطرفين”.

ويذهب المتحدث إلى أن هذا التحول “صعّب من عملية الدخول في علاقات اجتماعية معهم، بناء على ما تتسم به الثقافة القبلية في المغرب، بحيث أن أغلب الرحل هم ذكور غير مُرَافقين بأسرهم”.

ويضيف الفحفوحي أن “الرُحل القدامى كانوا يحملون معهم انتماءهم القبلي، وتكون القبيلة أو الفخذة التي ينتمون إليها معروفة، أما الرُحّل الرعاة الآن فيفتقدون لهذا الجانب مما يسبب في عدم استقبالهم بشكل إيجابي”.

جذور اقتصادية للصراع

كما للصراعات الحالية، وفق حديث الباحث السوسيولوجي، جذور اقتصادية، بسبب التحولات التي طرأت بفعل سياسة الدولة، ذلك أن هذه الأخيرة ذهبت نحو تحديد ملكية الأراضي وتحفيظها وتحديد أراضي الشياع وأراضي الحبوس وغيرها، إضافة إلى تحديد الملك الغابوي وحمايته، وفي المناطق شبه الصحراوية حتى الأحراش باتت تدخل في الملك الغابوي، ويتم منع الرُحل من الرعي فيها، ما جعل الأراضي المسموح فيها بالرعي مُقلصة جدا مما بات يولد الصراع.

وظاهرة الرعاة الرحل التي أصبحت الأن مناشرة، وفق الباحث، يمكن القول إنها “محاولة للتكيف مع طبيعة المناخ المغربي، فهي بمثابة إنتاج اقتصاد يتكيف مع البيئة المتغيرة، وبالتالي فهو إنتاج اقتصادي في وضعية صعبة”.

هذا المعطى يؤكد، وفق الباحث نفسه، أن هذه الظاهرة “لا يجب تفكيكها أو القضاء عليها، فهي تمثل إنتاجا لا تصرف عليه الدولة أي ميزانية ولا تدعمه، مع العلم أن الدعم يوجه للإنتاج الفلاحي”، مقترحا “معالجة الأسباب الثقافية والاجتماعية والمرتبطة بالسياسات العمومية التي أدت إلى استفحال الصراعات”.

ويشير الباحث إلى أنه “يجب إعادة النظر في مساحات الأراضي التي تم إضافتها إلى أملاك الأحباس أو غيرها، وأن تصبح مسموح لهؤلاء الرُحل أن يتنقلوا داخلها ويقوموا بالرعي فيها والاستفادة منها”.

التحسيس الثقافي

الجانب الثاني من الحل، يؤكد الباحث رشيد الفحفوحي، يجب أن “يرتبط بالتحسيس الثقافي لهذه الفئة حتى تستطيع الاندماج في المجتمعات المحلية بطريقة سلسلة، وأن تبتعد عن الطريقة العنيفة، كما على المجتمع المستقبل عليه أن يتقبل هؤلاء الرُحّل، عبر التوافق على صيغة تكفل حقوق الطرفين”.

وأضاف الفحفوحي أن “هؤلاء الرُحل يجب أن تكون لهم أشكال تنظيمية تؤطرهم، بما ينسجم مع التحولات التي طرأت عليهم”، مسجلا غياب جمعيات الرُحّل، في مقابل تواجد جمعيات أخرى داخل القبائل تترافع عن الساكنة المستقرة.

ويقول الباحث “هؤلاء الرُحّل هم فئة مهنية منتجة اقتصاديا، لكن لا رابط تنظيمي أو إطار مهني يجمعها، إضافة إلى تشتت الرابط القبلي بينها، مع التحول من رعاة تقليديين إلى رعاة مهنيين، ما يجعلهم فئة عمالية زراعية والدولة لها مسؤوليتها في التعامل معهم كمواطنين، وحقوقهم في المواطنة يجب أن تكون ثابتة”.

كما يُسجل الفحفوحي أن “الظروف التي يشتغل فيها هؤلاء صعبة، إذ يمكن أن يشتغلوا لمدة طويلة مقابل أثمنة هزيلة، وما دام الحديث الآن عن الرفع من الحد الأدنى للأجور في المجال الزراعي، فإن هذا الأمر يجب أن ينطبق حتى على هؤلاء الرحّل الرعاة”.

المنطق الفولكلوري

وأضاف المتحدث نفسه أن “الدولة يجب أن تعتبر هؤلاء مواطنيها، لهم حقوق المواطنة، بدل النظرة التقليدية تجاههم، واعتبارهم مجرد أناس يحملون موروثا ثقافيا تقليديا ينبغي الحفاظ عليه”، فالملاحظ، وفق الباحث، أن “الدولة تتعامل مع هؤلاء الرُحّل بمنطق القبيلة المستقبلة لهم، لكن المفروض أن تنظر إليهم بمنطق الدولة المدنية وأن تعتبرهم مواطنيها وأن يستفيدوا من حقوقهم كاملة”.

وأورد الباحث أن “المنطق الذي أصبح سائدا في التعامل مع هذه الفئة هو المنطق الفولكلوري، إذ يُعتقد أنه يجب الحفاظ على الرُحّل فقط لأنهم يحملون موروثا ثقافيا وتاريخيا، وهوية وتقاليد معينة، في حين أن هؤلاء ينبغي النظر إليهم كمغاربة ينتجون داخل سلسلة إنتاج تنتمي للمجال الزراعي”.

وأردف الباحث أن أعداد هؤلاء الرُحّل بالمغرب “تؤكد أنهم يمثلون مجتمع مترحل، وهؤلاء يمتلكون عددا كبيرا من المواشي والأغنام، فهؤلاء يمثلون اقتصادا قويا تنتعش من خلاله السوق المحلية، لكن مساهمة الدولة غير ملموسة سواء بالنسبة إليهم أو بالنسبة للقبائل المستقرة المتضررة منهم”.

ظاهرة اجتماعية مُعقدة

وأفاد الفحفوحي أن ظاهرة الرُحّل “ظاهرة اجتماعية يتدخل فيها الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتاريخي، ويمكن اعتبارها ظاهرة كلية بتعبير الأنتروبولوجي مارسيل موس، مما يتطلب أن يكون الحل في بعده الكلي”.

وأضاف الباحث أن “المجتمع المدني يجب أن ينبثق، فبقدر ما تحللت القبيلة وتفككت يجب أن تعوضها الآليات الحديثة، التي تخلق التضامن والترابط داخل المجتمع، سواء من خلال الجمعيات المهنية أو التعاونيات وغيرها”.

كما أن المنظومة التشريعية، وفق الباحث، يجب أن تتحرك لسن قوانين تعيد النظر في تنظيم ملكية الأراضي وإيجاد الحلول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News